عائلة بيلووي أو بورتريه عائلي
للفنان الفرنسي إدغــار ديغـــا، 1858
للفنان الفرنسي إدغــار ديغـــا، 1858
قد يبدو هذا البورتريه غريبا بالنسبة للذين اعتادوا رؤية أعمال إدغار ديغا المشهور بتابلوهاته الفخمة عن راقصات الباليه وسباقات الخيول وأنشطة الحياة الاجتماعية في باريس منتصف القرن التاسع عشر.
ومع ذلك يُعتبر البورتريه إحدى التحف التي رسمها ديغا في حياته المبكّرة وصوّر فيها طبيعة التوتّرات العائلية التي تعزل كلّ فرد من أفراد العائلة عن الآخر. وقد وظّف فيها الخبرة والمعرفة التي اكتسبها في ايطاليا أثناء دراسته هناك.
كان ديغا قد غادر باريس إلى ايطاليا لمواصلة دراسته للرسم في يوليو من عام 1856. وقد أقام في ايطاليا ثلاث سنوات، وهناك واتته فكرة رسم هذه اللوحة التي بدأ رسمها في نابولي عندما كان في زيارة عمّته "شقيقة والده" لورا وزوجها البارون جينارو بيلووي وابنتيهما غيوليا وجيوفانا. ثم أتمّ رسمها عندما عاد إلى باريس.
كان عمر ديغا وقتها أربعة وعشرين عاما. ويمكن أن يقال عن اللوحة أنها دراسة في العلاقات الإنسانية. وبعض النقّاد وصفها بأنها اقرب صورة لأجواء روايات القرن التاسع عشر.
كانت عمة الرسّام قد أسرّت له أن الحياة مع زوجها صعبة جدّا وأنه لا يملك وظيفة مهمّة وأن ذلك قد يقودها قريبا إلى القبر. كانت حاملا آنذاك، ويقال أن ظروفها ومن ثمّ موت الطفل وهو رضيع قد تكون وراء إحساس العائلة بالتعاسة والتوتّر المنزلي. وكلّ هذه الصراعات وفّرت الخلفية والمضمون لهذه اللوحة.
وأحد الجوانب المهمّة في كون اللوحة متفرّدة ومتميّزة هو توليفها الذي يقدّم بورتريها عائليا مرسوما على نفس المستوى الفخم للدراما التاريخية. وهناك سبب آخر، وهو أن مضمونها يمكن ترجمته كوثيقة أو كدراسة سيكولوجية. وهناك عامل إضافي وهو الطريقة التي اتّبعها الرسّام في اختيار أوضاع الشخصيات وأماكنها بحيث أن كلّ شيء يوحي بالهجر والتباعد بين الوالدين وكذلك بالولاءات المتضاربة والمنقسمة لأطفالهما.
في اللوحة تشغل المرأة الجزء الأكبر من المكان. وقد رسمها بهيئة نبيلة ومتقشّفة وبفستان يرمز للحداد. في ذلك الوقت لم يكن قد مرّ على وفاة والدها سوى فترة قصيرة، وهو يظهر في صورة على الجدار الذي خلفها. وبتضمين ديغا لبورتريه جدّه في الصورة كان يريد الربط بين أجيال عائلته. وقد استعار هذا التقليد من عصر النهضة حيث جرت العادة على أن يتضمّن البورتريه صورا للأسلاف.
حركة العمّة مرتبطة بحركات ابنتيها، بينما يبدو الأب منفصلا عن عائلته، ارتباطه بالتجارة والأعمال والعالم الخارجيّ يشي به موقعه على طرف الطاولة.
في اللوحة لا احد ينظر إلى احد. والزوج/الأب لا يفعل شيئا تقريبا، ويبدو بعيدا عن عائلته من الناحية الشعورية والعاطفية. ظهره للناظر ووجهه في الظلّ. الأمّ وقورة بشكل لافت مع إحساس بالسيطرة. وهذه السّمة تتباين مع حالة الانطواء النسبيّ للأب. التعبيرات العميقة على وجه الأمّ توحي بالمشاكل العاطفية داخل العائلة.
الابنة غيوليا تقف ويداها معقودتان في ظلّ أمّها. وعلى العكس منها، تبدو جيوفانا في المنتصف تماما، مستقلّة ونصف جالسة. الأولى رسمها الفنّان داخل مثلّث الأمّ كي يوحي بعلاقتها العاطفية القويّة بوالدتها. الابنة الثانية لا علاقة وثيقة بينها وبين أبويها، وجهها باتجاه أبيها، لكن نظراتها لا تقابل نظراته. بشكل عام، الأعين تعطي انطباعا بعدم الاستلطاف أو التقبّل، والنظرات مليئة بالبرود.
الأبعاد الواسعة والألوان الرصينة وألعاب المنظور المفتوح (الأبواب والمرايا) كلّها عناصر تسهم في تعزيز جوّ التنائي والانقباض. ومن خلال ملاحظة ديغا الشخصية القويّة وطريقة بنائه للتوليف استطاع أن يعطي كلّ شخص دليلا على سمات شخصيّته وأن يربط بين الحياة الشخصية لهؤلاء الأشخاص في فنّه.
بعد أن عاد الرسّام إلى باريس كتبت إليه عمّته تقول: لا بدّ وأنك الآن سعيد جدّا بعودتك إلى عائلتك بدلا من وجودك أمام وجه حزين مثل وجهي ووجه كريه كوجه زوجي".
بؤس عائلة بيلووي لم يكن بالأمر الشاذّ أو الخارج عن المألوف. الحقيقة أن التباعد والهجر بين الجنسين كان دائما حالة متكرّرة في أعمال ديغا في سبعينات القرن التاسع عشر.
وبورتريهاته ومشاهده بشكل عام يصوغها وجوده الاجتماعيّ. كان مهتمّا برسم شخصية الإنسان وجوهره السيكولوجي. الجديد هنا انه رسم أجواء التوتّر والتنائي التي رآها وعايشها داخل عائلته هو.
احد النقّاد كتب تعليقا بليغا عن هذه اللوحة عندما قال: ربّما لو قضيت مع هذه العائلة أسابيع أو أشهرا ما كنت ستفهمها مثلما ستفهمها وأنت تنظر إلى هذه اللوحة التي صوّر الرسّام جوّها النفسيّ والمزاجي بمهارة واقتدار.
مفهوم المعنى المركّب في الرسم رافق ديغا في جميع مراحل حياته. هو نفسه كان احد أعظم رسّامي البورتريه في زمانه. لكن كانت له دائما طريقته الساحرة في تناول المشاهد والقصص المنزلية التي لم يَخبَرها هو بنفسه بحكم انه اختار أن يظلّ أعزب طوال حياته.
ولد إدغار ديغا في باريس. وكان معروفا برسوماته الانطباعية رغم انه لم يكن متماهيا مع الكثير من أفكار الانطباعيين، كما أن طبيعته كانت تنفر من الرسم في الهواء الطلق. وقد كانت علاقته صعبة مع كلود مونيه الذي ظلّ مخلصا للانطباعية طوال حياته.
كان ديغا اكبر إخوته الخمسة. والده كان موظّفا مصرفيّا، ولم يشجّعه على أن يصبح رسّاما، إذ كانت لدى الأب خطط أخرى وكان يريد منه أن يتخصّص في القانون. وقد درس في الجامعة ونال درجة البكالوريوس في الأدب.
كميل بيسارو أحد زملاء ديغا قال عن حرصه على الإجادة والإتقان أن ديغا دائما ما يشقّ طريقه إلى الأمام وكثيرا ما يجد تعبيرا ما في كلّ شيء يحيط به.
الغريب انه في نهايات حياته كان يداوم على شراء لوحات سيزان وفان غوخ وديلاكروا وال غريكو، وكأنه كان يريد تقوية علاقته مع زملائه الذين كان معجبا بهم وليؤكّد على فكرة الاستمرارية أو السيرورة في الفنّ. وفي النهاية استطاع أن يجمع أكثر من عشرين لوحة كانت هي بالنسبة له بمثابة عائلته التي حُرم منها.
في أخريات حياته فقد ديغا بصره تماما ولم يعد قادرا على رؤية اللوحات، بل كان يكتفي بتمرير أصابعه فوقها. وكان كثيرا ما يُرى وهو يمشي لوحده في شوارع باريس متّكئا على عصا ومثيرا تعاطف المارّة وشفقتهم.
ومع ذلك يُعتبر البورتريه إحدى التحف التي رسمها ديغا في حياته المبكّرة وصوّر فيها طبيعة التوتّرات العائلية التي تعزل كلّ فرد من أفراد العائلة عن الآخر. وقد وظّف فيها الخبرة والمعرفة التي اكتسبها في ايطاليا أثناء دراسته هناك.
كان ديغا قد غادر باريس إلى ايطاليا لمواصلة دراسته للرسم في يوليو من عام 1856. وقد أقام في ايطاليا ثلاث سنوات، وهناك واتته فكرة رسم هذه اللوحة التي بدأ رسمها في نابولي عندما كان في زيارة عمّته "شقيقة والده" لورا وزوجها البارون جينارو بيلووي وابنتيهما غيوليا وجيوفانا. ثم أتمّ رسمها عندما عاد إلى باريس.
كان عمر ديغا وقتها أربعة وعشرين عاما. ويمكن أن يقال عن اللوحة أنها دراسة في العلاقات الإنسانية. وبعض النقّاد وصفها بأنها اقرب صورة لأجواء روايات القرن التاسع عشر.
كانت عمة الرسّام قد أسرّت له أن الحياة مع زوجها صعبة جدّا وأنه لا يملك وظيفة مهمّة وأن ذلك قد يقودها قريبا إلى القبر. كانت حاملا آنذاك، ويقال أن ظروفها ومن ثمّ موت الطفل وهو رضيع قد تكون وراء إحساس العائلة بالتعاسة والتوتّر المنزلي. وكلّ هذه الصراعات وفّرت الخلفية والمضمون لهذه اللوحة.
وأحد الجوانب المهمّة في كون اللوحة متفرّدة ومتميّزة هو توليفها الذي يقدّم بورتريها عائليا مرسوما على نفس المستوى الفخم للدراما التاريخية. وهناك سبب آخر، وهو أن مضمونها يمكن ترجمته كوثيقة أو كدراسة سيكولوجية. وهناك عامل إضافي وهو الطريقة التي اتّبعها الرسّام في اختيار أوضاع الشخصيات وأماكنها بحيث أن كلّ شيء يوحي بالهجر والتباعد بين الوالدين وكذلك بالولاءات المتضاربة والمنقسمة لأطفالهما.
في اللوحة تشغل المرأة الجزء الأكبر من المكان. وقد رسمها بهيئة نبيلة ومتقشّفة وبفستان يرمز للحداد. في ذلك الوقت لم يكن قد مرّ على وفاة والدها سوى فترة قصيرة، وهو يظهر في صورة على الجدار الذي خلفها. وبتضمين ديغا لبورتريه جدّه في الصورة كان يريد الربط بين أجيال عائلته. وقد استعار هذا التقليد من عصر النهضة حيث جرت العادة على أن يتضمّن البورتريه صورا للأسلاف.
حركة العمّة مرتبطة بحركات ابنتيها، بينما يبدو الأب منفصلا عن عائلته، ارتباطه بالتجارة والأعمال والعالم الخارجيّ يشي به موقعه على طرف الطاولة.
في اللوحة لا احد ينظر إلى احد. والزوج/الأب لا يفعل شيئا تقريبا، ويبدو بعيدا عن عائلته من الناحية الشعورية والعاطفية. ظهره للناظر ووجهه في الظلّ. الأمّ وقورة بشكل لافت مع إحساس بالسيطرة. وهذه السّمة تتباين مع حالة الانطواء النسبيّ للأب. التعبيرات العميقة على وجه الأمّ توحي بالمشاكل العاطفية داخل العائلة.
الابنة غيوليا تقف ويداها معقودتان في ظلّ أمّها. وعلى العكس منها، تبدو جيوفانا في المنتصف تماما، مستقلّة ونصف جالسة. الأولى رسمها الفنّان داخل مثلّث الأمّ كي يوحي بعلاقتها العاطفية القويّة بوالدتها. الابنة الثانية لا علاقة وثيقة بينها وبين أبويها، وجهها باتجاه أبيها، لكن نظراتها لا تقابل نظراته. بشكل عام، الأعين تعطي انطباعا بعدم الاستلطاف أو التقبّل، والنظرات مليئة بالبرود.
الأبعاد الواسعة والألوان الرصينة وألعاب المنظور المفتوح (الأبواب والمرايا) كلّها عناصر تسهم في تعزيز جوّ التنائي والانقباض. ومن خلال ملاحظة ديغا الشخصية القويّة وطريقة بنائه للتوليف استطاع أن يعطي كلّ شخص دليلا على سمات شخصيّته وأن يربط بين الحياة الشخصية لهؤلاء الأشخاص في فنّه.
بعد أن عاد الرسّام إلى باريس كتبت إليه عمّته تقول: لا بدّ وأنك الآن سعيد جدّا بعودتك إلى عائلتك بدلا من وجودك أمام وجه حزين مثل وجهي ووجه كريه كوجه زوجي".
بؤس عائلة بيلووي لم يكن بالأمر الشاذّ أو الخارج عن المألوف. الحقيقة أن التباعد والهجر بين الجنسين كان دائما حالة متكرّرة في أعمال ديغا في سبعينات القرن التاسع عشر.
وبورتريهاته ومشاهده بشكل عام يصوغها وجوده الاجتماعيّ. كان مهتمّا برسم شخصية الإنسان وجوهره السيكولوجي. الجديد هنا انه رسم أجواء التوتّر والتنائي التي رآها وعايشها داخل عائلته هو.
احد النقّاد كتب تعليقا بليغا عن هذه اللوحة عندما قال: ربّما لو قضيت مع هذه العائلة أسابيع أو أشهرا ما كنت ستفهمها مثلما ستفهمها وأنت تنظر إلى هذه اللوحة التي صوّر الرسّام جوّها النفسيّ والمزاجي بمهارة واقتدار.
مفهوم المعنى المركّب في الرسم رافق ديغا في جميع مراحل حياته. هو نفسه كان احد أعظم رسّامي البورتريه في زمانه. لكن كانت له دائما طريقته الساحرة في تناول المشاهد والقصص المنزلية التي لم يَخبَرها هو بنفسه بحكم انه اختار أن يظلّ أعزب طوال حياته.
ولد إدغار ديغا في باريس. وكان معروفا برسوماته الانطباعية رغم انه لم يكن متماهيا مع الكثير من أفكار الانطباعيين، كما أن طبيعته كانت تنفر من الرسم في الهواء الطلق. وقد كانت علاقته صعبة مع كلود مونيه الذي ظلّ مخلصا للانطباعية طوال حياته.
كان ديغا اكبر إخوته الخمسة. والده كان موظّفا مصرفيّا، ولم يشجّعه على أن يصبح رسّاما، إذ كانت لدى الأب خطط أخرى وكان يريد منه أن يتخصّص في القانون. وقد درس في الجامعة ونال درجة البكالوريوس في الأدب.
كميل بيسارو أحد زملاء ديغا قال عن حرصه على الإجادة والإتقان أن ديغا دائما ما يشقّ طريقه إلى الأمام وكثيرا ما يجد تعبيرا ما في كلّ شيء يحيط به.
الغريب انه في نهايات حياته كان يداوم على شراء لوحات سيزان وفان غوخ وديلاكروا وال غريكو، وكأنه كان يريد تقوية علاقته مع زملائه الذين كان معجبا بهم وليؤكّد على فكرة الاستمرارية أو السيرورة في الفنّ. وفي النهاية استطاع أن يجمع أكثر من عشرين لوحة كانت هي بالنسبة له بمثابة عائلته التي حُرم منها.
في أخريات حياته فقد ديغا بصره تماما ولم يعد قادرا على رؤية اللوحات، بل كان يكتفي بتمرير أصابعه فوقها. وكان كثيرا ما يُرى وهو يمشي لوحده في شوارع باريس متّكئا على عصا ومثيرا تعاطف المارّة وشفقتهم.
موضوع ذو صلة: ديغا والحياة الحديثة