منظر طبيعيّ مع بورتريه للناسك جيروم
للفنان الهولندي يواكيم باتينير، 1520
للفنان الهولندي يواكيم باتينير، 1520
كان جيل الرسّامين الهولنديين الأوائل هم الأشهر في أوربّا في زمانهم. ومن بينهم اكتسب الفنّان انطوني فان ايك بالذات مكانة أسطورية باعتباره مبتكر الرسم بالزيت. وأعمال هؤلاء كان يطلبها الملوك والأمراء والتجّار في أرجاء القارّة لجودة ألوانها وتنفيذها ولدقّتها التعبيرية الكبيرة.
وما غذّى صناعة وسوق الرسم آنذاك هو الاقتصاد النشط والمتعافي في الأراضي المنخفضة وكذلك ازدهار التجارة الدولية بشكل عام. وجزء مهمّ ممّا تزخر به المتاحف العالمية اليوم من أعمال فنّية مصدره مدينتا انتويرب وبروغيس.
وسواءّ كانت الرسومات الهولندية أشياءً للتقديس أو سجلات لوجود الإنسان في زمن ومكان معيّنين أو لزخرفة أو تزيين المساكن والمعابد، فإن ممّا لا شكّ فيه أن الأعمال المبكّرة تكشف عن هدف مشترك ألا وهو جعل الصورة المرسومة حاضرة بقوّة وجعل غير المنظور محسوسا وملاحَظا.
ومن أشهر الرسّامين الهولنديين الأوائل يواكيم باتينير الذي وصفه مواطنه البريخت ديورر بأنه كان بارعا على وجه الخصوص في رسم المناظر الطبيعية. وهناك العديد من الأعمال المنسوبة إليه، لكن لا توجد اليوم سوى خمس لوحات فقط تحمل توقيعه.
كان باتينير يرسم مناظر طبيعية ضخمة مع اهتمام غير عاديّ بالتفاصيل. وتلك اللوحات يغلب عليها الطابع الفانتازي والسوريالي، والأشخاص فيها صغار جدّا. وكثيرا ما كان يرسم الأشخاص في لوحاته رسّامون آخرون غيره، وكان هذا تقليدا شائعا ومقبولا في ذلك الوقت.
في هذه اللوحة، يرسم باتينير قصّة من التراث المسيحيّ عن ناسك يُدعى جيروم، او هيرونيموس كما يُسمّى أحيانا. كان هذا الراهب قد هاجر من بلاده في البلقان إلى بيت لحم في فلسطين مع بدايات ظهور المسيحية. وهو أوّل من وضع ترجمة للأناجيل من اللغة الآرامية إلى اللاتينية.
تقول الأسطورة إن هذا القدّيس مرّ ذات يوم من أمام حيوان كاسر قد يكون أسدا. ولاحظ أن الحيوان يعاني من عدم القدرة على المشي. وفهم أن سبب آلامه يعود إلى انغراز شوكة في أحد مخالبه. لذا قرّر على الفور أن يساعده، وأزال الشوكة ثم عالج جرحه. وتعبيرا من الأسد عن شكره وامتنانه، عرض نفسه كحارس للدير الذي كان يعيش فيه الناسك.
في الجزء الأماميّ من اللوحة نرى شيئا يشبه الكهف، بينما يجلس الناسك وقد أمسك بالأسد بطريقة حانية كي يزيل الشوكة عن مخلبه.
والقدّيس يجلس هنا في عزلته مع جمجمة وصليب. لكن الرجل ليس هو العنصر المهمّ الوحيد في المنظر، وإنّما هناك أيضا تفاصيل الطبيعة التي تحيط به من تلال خضراء وأشجار كثيفة وجبال زرقاء تغطّيها الغيوم.
الطبيعة في اللوحة لها حضور أقوى من حضور الشخصية نفسها. وتفاصيل التضاريس والأرض تعطي انطباعا عن دراما على هيئة قصّة أو حكاية في كتاب. والواقع أن ما نراه هو عبارة عن طبيعة بانورامية رائعة تحرّض الناظر على أن يتجوّل فيها ببصره ويستمتع بتفاصيلها.
إلى جانب المشهد الأساسيّ، نرى عدّة مشاهد ثانوية. فإلى اليمين إلى أسفل، هناك رجل عجوز يمشي مع صبيّ. وفوق قليلا نرى أسدا أو نمرا يهاجم فلاحا على حماره. هذا المشهد كوميديّ نوعا ما، إذ يظهر الفلاح وهو على وشك السقوط عن ظهر الحمار من شدّة الخوف.
وفي قمّة الجبل نرى الكنيسة والطرق العديدة التي تقود إليها. وإلى اليمين هناك قرية وإلى جوارها مزرعة مع بركة. وفي أعلى اللوحة نرى بحرا وميناءً وجسرا وعدّة قوارب. وهناك أيضا قلعة تبرز من أعماق الغابة، بالإضافة إلى تشكيلات صخرية غريبة. وقد ضُمّنت هذه المشاهد المختلفة في اللوحة بطريقة غريبة نوعا ما.
هذه القصّة، بالإضافة إلى رمزيّتها الأخلاقية، لها معنى مجازيّ في تقاليد الكاثوليكية. فالشوكة هي صورة عن تاج الأشواك الذي كان يرتديه المسيح وقت صلبه، وهو يمثّل الخطيئة. ومثل ما استطاع جيروم انتزاع الشوكة من مخلب الأسد، تمكّن المسيح أيضا من تخليص أرواح الناس من الخطيئة، بحسب الأدبيّات المسيحية.
باتينير وزملاؤه الرسّامون الهولنديون الأوائل منحوا بعدا جديدا للتجربة الدينية، فأصبح إطار الصورة عتبة إلى عالم سبق وصفه في الكتابة، لكن لم يسبق أبدا أن جُسّد في الرسم.
كان هناك إحساس بالتناسق والحركة وبتفاصيل الديكور المستمدّ من عصر النهضة. وكلّ هذه السمات تخلّلت الرسم الهولنديّ المبكّر. وفي نفس الوقت اظهر الرسّامون اهتماما متزايدا بالعناصر الدنيوية، أي الطبيعة والحياة الصامتة ومناشط الحياة اليومية المختلفة، وأصبحت هذه العناصر تتنافس مع العناصر الدينية في أعمالهم. وأدّى هذا إلى ظهور نوع جديد من الرسم أصبح مألوفا في القرن السابع عشر.
بعض النقّاد يعتبرون هذه اللوحة معلما مهمّا في تاريخ الرسم الأوربّي. وقد يكون الفنّان كُلّف برسمها كي تُعلّق في كنيسة في جنوب ألمانيا. وفي ما بعد ضُمّت إلى المجموعة الفنّية الخاصّة بالملك الإسباني فيليب الثاني الذي وهبها إلى قصر الاسكوريال. ثم بعد ذلك أصبحت من مقتنيات متحف برادو منذ العام 1839م.
يواكيم باتينير رسّام غير معروف كثيرا، ربّما بسبب قلّة عدد لوحاته الموجود معظمها في مجموعات فنّية خاصّة. ولهذا السبب كان من الصعب، حتى على المتخصّصين، دراسة حياته أو فنّه باعتباره كان شخصا غامضا ومثيرا للاهتمام.
لكن مؤرّخي الرسم يعتبرونه رائدا لرسم الطبيعة كنوع مستقلّ من الرسم. وهو أوّل رسّام هولنديّ كان يعتبر نفسه رسّام مناظر طبيعية. كما أنه أحد الرسّامين الذين يعود لهم الفضل في توسيع حدود وآفاق الرسم. لاحظ مثلا كيف انه رسم في الأفق البعيد جبالا مشوبة بزرقة يبدو معها المنظر الطبيعيّ ممتدّا بلا نهاية.
وكثيرا ما يقارَن باتينير بفنّانين هولنديين من أمثال هيرونيموس بوش وبيتر بريغل. البريخت ديورر كان صديقا له. وقد حضر هذا الأخير الزواج الثاني للأوّل ورسم له بورتريها للمناسبة. كما كان له صديق آخر هو الرسّام كوينتين ميتسيز الذي أصبح "أي متسيز" وصيّا على أبنائه بعد وفاته.
وفي الواقع لا يُعرف متى ولد الرسّام، لكن يُرجّح انه رأى النور حوالي العام 1482 في ما يُعرف اليوم ببلجيكا، كما عمل طوال حياته في مدينة انتويرب التي توفّي فيها عام 1524م.
في ذلك الوقت، كانت انتويرب السوق الرئيسية للفنّ في أوربّا. وكانت الأعمال المنتجة هناك كثيرة جدّا. وكان الرسّامون هم من يتحكّمون في سوق الفنّ وليست الكنيسة كما جرت العادة في بقيّة أنحاء القارّة.
وما غذّى صناعة وسوق الرسم آنذاك هو الاقتصاد النشط والمتعافي في الأراضي المنخفضة وكذلك ازدهار التجارة الدولية بشكل عام. وجزء مهمّ ممّا تزخر به المتاحف العالمية اليوم من أعمال فنّية مصدره مدينتا انتويرب وبروغيس.
وسواءّ كانت الرسومات الهولندية أشياءً للتقديس أو سجلات لوجود الإنسان في زمن ومكان معيّنين أو لزخرفة أو تزيين المساكن والمعابد، فإن ممّا لا شكّ فيه أن الأعمال المبكّرة تكشف عن هدف مشترك ألا وهو جعل الصورة المرسومة حاضرة بقوّة وجعل غير المنظور محسوسا وملاحَظا.
ومن أشهر الرسّامين الهولنديين الأوائل يواكيم باتينير الذي وصفه مواطنه البريخت ديورر بأنه كان بارعا على وجه الخصوص في رسم المناظر الطبيعية. وهناك العديد من الأعمال المنسوبة إليه، لكن لا توجد اليوم سوى خمس لوحات فقط تحمل توقيعه.
كان باتينير يرسم مناظر طبيعية ضخمة مع اهتمام غير عاديّ بالتفاصيل. وتلك اللوحات يغلب عليها الطابع الفانتازي والسوريالي، والأشخاص فيها صغار جدّا. وكثيرا ما كان يرسم الأشخاص في لوحاته رسّامون آخرون غيره، وكان هذا تقليدا شائعا ومقبولا في ذلك الوقت.
في هذه اللوحة، يرسم باتينير قصّة من التراث المسيحيّ عن ناسك يُدعى جيروم، او هيرونيموس كما يُسمّى أحيانا. كان هذا الراهب قد هاجر من بلاده في البلقان إلى بيت لحم في فلسطين مع بدايات ظهور المسيحية. وهو أوّل من وضع ترجمة للأناجيل من اللغة الآرامية إلى اللاتينية.
تقول الأسطورة إن هذا القدّيس مرّ ذات يوم من أمام حيوان كاسر قد يكون أسدا. ولاحظ أن الحيوان يعاني من عدم القدرة على المشي. وفهم أن سبب آلامه يعود إلى انغراز شوكة في أحد مخالبه. لذا قرّر على الفور أن يساعده، وأزال الشوكة ثم عالج جرحه. وتعبيرا من الأسد عن شكره وامتنانه، عرض نفسه كحارس للدير الذي كان يعيش فيه الناسك.
في الجزء الأماميّ من اللوحة نرى شيئا يشبه الكهف، بينما يجلس الناسك وقد أمسك بالأسد بطريقة حانية كي يزيل الشوكة عن مخلبه.
والقدّيس يجلس هنا في عزلته مع جمجمة وصليب. لكن الرجل ليس هو العنصر المهمّ الوحيد في المنظر، وإنّما هناك أيضا تفاصيل الطبيعة التي تحيط به من تلال خضراء وأشجار كثيفة وجبال زرقاء تغطّيها الغيوم.
الطبيعة في اللوحة لها حضور أقوى من حضور الشخصية نفسها. وتفاصيل التضاريس والأرض تعطي انطباعا عن دراما على هيئة قصّة أو حكاية في كتاب. والواقع أن ما نراه هو عبارة عن طبيعة بانورامية رائعة تحرّض الناظر على أن يتجوّل فيها ببصره ويستمتع بتفاصيلها.
إلى جانب المشهد الأساسيّ، نرى عدّة مشاهد ثانوية. فإلى اليمين إلى أسفل، هناك رجل عجوز يمشي مع صبيّ. وفوق قليلا نرى أسدا أو نمرا يهاجم فلاحا على حماره. هذا المشهد كوميديّ نوعا ما، إذ يظهر الفلاح وهو على وشك السقوط عن ظهر الحمار من شدّة الخوف.
وفي قمّة الجبل نرى الكنيسة والطرق العديدة التي تقود إليها. وإلى اليمين هناك قرية وإلى جوارها مزرعة مع بركة. وفي أعلى اللوحة نرى بحرا وميناءً وجسرا وعدّة قوارب. وهناك أيضا قلعة تبرز من أعماق الغابة، بالإضافة إلى تشكيلات صخرية غريبة. وقد ضُمّنت هذه المشاهد المختلفة في اللوحة بطريقة غريبة نوعا ما.
هذه القصّة، بالإضافة إلى رمزيّتها الأخلاقية، لها معنى مجازيّ في تقاليد الكاثوليكية. فالشوكة هي صورة عن تاج الأشواك الذي كان يرتديه المسيح وقت صلبه، وهو يمثّل الخطيئة. ومثل ما استطاع جيروم انتزاع الشوكة من مخلب الأسد، تمكّن المسيح أيضا من تخليص أرواح الناس من الخطيئة، بحسب الأدبيّات المسيحية.
باتينير وزملاؤه الرسّامون الهولنديون الأوائل منحوا بعدا جديدا للتجربة الدينية، فأصبح إطار الصورة عتبة إلى عالم سبق وصفه في الكتابة، لكن لم يسبق أبدا أن جُسّد في الرسم.
كان هناك إحساس بالتناسق والحركة وبتفاصيل الديكور المستمدّ من عصر النهضة. وكلّ هذه السمات تخلّلت الرسم الهولنديّ المبكّر. وفي نفس الوقت اظهر الرسّامون اهتماما متزايدا بالعناصر الدنيوية، أي الطبيعة والحياة الصامتة ومناشط الحياة اليومية المختلفة، وأصبحت هذه العناصر تتنافس مع العناصر الدينية في أعمالهم. وأدّى هذا إلى ظهور نوع جديد من الرسم أصبح مألوفا في القرن السابع عشر.
بعض النقّاد يعتبرون هذه اللوحة معلما مهمّا في تاريخ الرسم الأوربّي. وقد يكون الفنّان كُلّف برسمها كي تُعلّق في كنيسة في جنوب ألمانيا. وفي ما بعد ضُمّت إلى المجموعة الفنّية الخاصّة بالملك الإسباني فيليب الثاني الذي وهبها إلى قصر الاسكوريال. ثم بعد ذلك أصبحت من مقتنيات متحف برادو منذ العام 1839م.
يواكيم باتينير رسّام غير معروف كثيرا، ربّما بسبب قلّة عدد لوحاته الموجود معظمها في مجموعات فنّية خاصّة. ولهذا السبب كان من الصعب، حتى على المتخصّصين، دراسة حياته أو فنّه باعتباره كان شخصا غامضا ومثيرا للاهتمام.
لكن مؤرّخي الرسم يعتبرونه رائدا لرسم الطبيعة كنوع مستقلّ من الرسم. وهو أوّل رسّام هولنديّ كان يعتبر نفسه رسّام مناظر طبيعية. كما أنه أحد الرسّامين الذين يعود لهم الفضل في توسيع حدود وآفاق الرسم. لاحظ مثلا كيف انه رسم في الأفق البعيد جبالا مشوبة بزرقة يبدو معها المنظر الطبيعيّ ممتدّا بلا نهاية.
وكثيرا ما يقارَن باتينير بفنّانين هولنديين من أمثال هيرونيموس بوش وبيتر بريغل. البريخت ديورر كان صديقا له. وقد حضر هذا الأخير الزواج الثاني للأوّل ورسم له بورتريها للمناسبة. كما كان له صديق آخر هو الرسّام كوينتين ميتسيز الذي أصبح "أي متسيز" وصيّا على أبنائه بعد وفاته.
وفي الواقع لا يُعرف متى ولد الرسّام، لكن يُرجّح انه رأى النور حوالي العام 1482 في ما يُعرف اليوم ببلجيكا، كما عمل طوال حياته في مدينة انتويرب التي توفّي فيها عام 1524م.
في ذلك الوقت، كانت انتويرب السوق الرئيسية للفنّ في أوربّا. وكانت الأعمال المنتجة هناك كثيرة جدّا. وكان الرسّامون هم من يتحكّمون في سوق الفنّ وليست الكنيسة كما جرت العادة في بقيّة أنحاء القارّة.