ساتير يبكي حزنا على حوريّة
للفنان الايطالي بييرو دي كوزيمو، 1495
للفنان الايطالي بييرو دي كوزيمو، 1495
أحيانا نعرف طبيعة وموضوع لوحة ما عندما تكون مستندة إلى عمل أدبيّ؛ مسرحية أو رواية أو قصيدة، أو إلى واقعة تاريخية. لكن هذه اللوحة لا تدخل ضمن هذا التوصيف، بل إن بعض مؤرّخي الفنّ يعتبرونها واحدة من أكثر اللوحات غموضا في تاريخ الرسم الكلاسيكيّ الغربيّ.
حتى الفنّان الذي رسمها لا يُعرف عنه وعن حياته سوى النزر اليسير. ولوحاته الباقية حتى اليوم قليلة جدّا، كما أنها لا تحمل توقيعه ولا أيّ تاريخ.
في اللوحة، يرسم بييرو دي كوزيمو حورية بحر ميّتة على ارض معشبة وعلى يديها ومعصمها وعنقها آثار جروح، بينما ينحني فوق جثمانها مخلوق نصف إنسان "أو ساتير: وهو إله من آلهة الغابات عند الإغريق له ذيل وأذُنا وقائمتا فَرَس" تبدو على ملامحه علامات الحزن والتأثّر، وعند قدميها يقف كلب صيد متأثّرا بالمشهد.
يقال أن اللوحة ترجمة صورية لحكاية أوردها اوفيد في كتابه "التحوّلات" عندما تحدّث عن موت الأميرة بروكريس ابنة ملك أثينا التي قُتلت عن طريق الخطأ على يد زوجها الأمير سيفالوس أثناء رحلة لصيد الغزلان. ويبدو أن تلك الحادثة المشئومة وقعت ولم يكن قد مرّ على زواج الاثنين سوى بضعة أشهر.
لكن الغريب أن اللوحة تخلو من شخص سيفالوس، كما أن لا اثر فيها للرمح الذي يُفترض انه قتلها به. والملاحظ أن قصّة اوفيد هذه ظهرت مرّة أخرى في نهاية القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، في مسرحية للكاتب الايطالي كوريجيو الذي أضاف إليها أفكارا مسيحية.
هذه اللوحة تُعتبر من انجح وأكثر أعمال دي كوزيمو شعبية. وهي طويلة جدّا من حيث الحجم. وهناك احتمال أنها استُخدمت كخلفية لأريكة أو خزانة في قصر بفلورنسا أو في غرفة عروس من نساء الطبقة الرفيعة. وما يزال بالإمكان رؤية آثار بصمات أصابع الرسّام في الجزء العلويّ منها.
الدراما في اللوحة تحدث على ارض منخفضة عند مصبّ نهر. في الخلفية، الحياة مستمرّة، وهناك سفن مبحرة ونوارس وبجع وكلاب صيد. التدرّج في استخدام ألوان خفيفة وناعمة في الخلفية كانت طريقة ابتدعها دافنشي. والكلب في اللوحة ليس عنصرا مكمّلا أو مجرّد رفيق صيد بل صوّره الرسّام كشريك للإنسان في الحداد والحزن، وهذه تُعتبر فكرة ثورية وغريبة على فنّ عصر النهضة.
دي كوزيمو كان بارعا في رسم الحيوانات، وقد رسم الكلب هنا بطريقة تشي بنبل هذا الحيوان وإخلاصه وصدق مشاعره. وحسب اوفيد، كان الملك مينوس والد بروكريس هو من أهدى الكلب إلى عريسها.
المصدر الوحيد لأيّ معلومات متوفّرة عن هذا الرسّام هو كتاب "حياة الفنّانين" للمؤرّخ الايطاليّ جورجيو فاساري. وهذا الأخير لم يكن بالتأكيد أنزه المؤرّخين، لكن يمكن أن يكون في بعض ما ذكره شيء من الحقيقة. وهو في كلامه عن دي كوزيمو يرسم صورة لإنسان غريب الأطوار ودائم السخرية من العالم. وقد يكون هذا هو السبب في أن السورياليين انجذبوا إليه وأحبّوا أعماله.
فاساري يصف دي كوزيمو بأنه كان شخصا شاذّ الطباع، بوهيميّا وكارها للمجتمع. وهو يقدّمه كنموذج لنوعية الحياة التي يجب على كلّ فنّان أن يتجنّبها. كان الرسّام مفتونا بالحيوانات التي تظهر في لوحاته كثيرا. كما كان مغرما بالعزلة، وكثيرا ما كان في أوقات فراغه ينسج الأحلام ويبني قصورا في الهواء.
كان دي كوزيمو يعيش كحيوان برّي أكثر منه إنسانا. وفي كلّ أعماله، هناك روح تختلف عن أعمال غيره وبراعة في استكشاف الطبيعة وتوظيف ذلك من اجل متعته الخاصّة. ولطالما تمنّى الرسّام أن يموت في الهواء الطلق وحوله أناس كثيرون يؤازرونه بالكلمات الطيّبة وكاهن يدعو له قبل أن يذهب برفقة الملائكة إلى الجنّة. كان يردّد مثل هذه الأحاديث والأفكار كثيرا بالقرب من نهايات حياته إلى أن وُجد ميّتا ذات يوم أسفل دَرَج منزله.
بعض مؤرّخي الفنّ اليوم يستبعدون أن تكون هذه اللوحة تصويرا لحادثة القتل التي كتب عنها اوفيد، بل يرجّحون أن تكون عن جريمة قتل متعمّدة. ودليلهم في ذلك أن الجرح الناتج عن نفاذ رمح في جسد إنسان لا يتوافق مع الجروح الظاهرة على جسد المرأة في اللوحة.
وما يسوقه هؤلاء من حجج هو دليل آخر على أن المعرفة العلمية يمكن أن توفّر منظورا جديدا في فهم اللوحات الكلاسيكية. مثلا، الجروح والتشوّهات التي لحقت بيدي المرأة تشي بأنها كانت تحاول أن تمنع مهاجما كان يتقدّم نحوها، وقد جرحها بطريقة عنيفة وربّما كان يحمل سكّينا أو سيفا. وبالتأكيد لا يمكن لرمح أن يخلّف مثل هذه الجروح.
وهناك أيضا يد المرأة اليسرى المنثنية للخلف؛ هذه الوضعية تدلّ على أنها تلقّت ضربة خطيرة ومميتة على العنق. ومثل هذه الضربة، حسب الأطبّاء، تتسبّب عادة في تلف الأعصاب التي تجعل معصم اليد ينثني والأصابع تتيبّس. ويخلص هؤلاء إلى أن هذه صورة لامرأة رُضّ عنقها بعد أن حاولت بيأس أن تدافع عن نفسها في وجه قاتل يُشهر آلة حادّة.
وهناك رواية أخرى تقول أن دي كوزيمو كان يحاول فعلا أن يرسم موت بروكريس. وما حدث هو انه ذهب إلى مستودع للجثث وطلب أن يُسمح له برسم جثّة امرأة شابّة قُتلت بسكين. وعندما سُمح له، بدأ برسم ما رآه على القماش. وتصادف أن لا يتوافق ما رسمه مع فهمنا اليوم لما يمكن أن يحدث لامرأة تعرّضت لضربة من رمح.
أشهر لوحات دي كوزيمو موضوعاتها أسطورية وتمتلئ بصور الجان والمخلوقات الهجينة والأقوام البدائيين. ويقال إن الرسّام عندما توفّي أستاذه، ويُدعى روسيللي، استولى عليه الحزن الشديد فأغلق على نفسه باب منزله ولم يسمح لأحد بزيارته وأهمل تنظيف غرفته وتشذيب حديقته. ولهذا السبب رأى البعض في اللوحة ما يمكن أن يكون "بيان نعي أو حِداد" من الرسّام على معلّمه.
الكلاب وطيور البحر والسفن والطريق المتعرّج عناصر قد تتضمّن رمزية تتعلّق بالموت أو بمراحل الحياة. وقد تشير أيضا إلى رحلة الحياة المحفوفة بالمخاطر أو إلى النهاية الحتمية لكلّ شيء.
يذكر فاساري أن دي كوزيمو كاد يُجنّ لوفاة معلّمه. ويبدو انه لم يُشفَ من ذلك الجنون أبدا. كان روسيللي بالنسبة له معلّما محبّا وأبا عطوفا. والكلب قد يكون رمزا لرفقتهما ولإخلاص الرسّام ووفائه الأبديّ لذكرى سيّده.
أمّا الساتير أو إله الغابات فربّما يعكس انجذاب الرسّام للحياة الفطرية والسلوك الغريزيّ. وقد يكون هذا المخلوق هو دي كوزيمو نفسه وهو يبكي الجمال المخبوء في معلّمه الراحل محاولا أن يبعثه إلى الحياة من جديد من خلال فنّه.
حتى الفنّان الذي رسمها لا يُعرف عنه وعن حياته سوى النزر اليسير. ولوحاته الباقية حتى اليوم قليلة جدّا، كما أنها لا تحمل توقيعه ولا أيّ تاريخ.
في اللوحة، يرسم بييرو دي كوزيمو حورية بحر ميّتة على ارض معشبة وعلى يديها ومعصمها وعنقها آثار جروح، بينما ينحني فوق جثمانها مخلوق نصف إنسان "أو ساتير: وهو إله من آلهة الغابات عند الإغريق له ذيل وأذُنا وقائمتا فَرَس" تبدو على ملامحه علامات الحزن والتأثّر، وعند قدميها يقف كلب صيد متأثّرا بالمشهد.
يقال أن اللوحة ترجمة صورية لحكاية أوردها اوفيد في كتابه "التحوّلات" عندما تحدّث عن موت الأميرة بروكريس ابنة ملك أثينا التي قُتلت عن طريق الخطأ على يد زوجها الأمير سيفالوس أثناء رحلة لصيد الغزلان. ويبدو أن تلك الحادثة المشئومة وقعت ولم يكن قد مرّ على زواج الاثنين سوى بضعة أشهر.
لكن الغريب أن اللوحة تخلو من شخص سيفالوس، كما أن لا اثر فيها للرمح الذي يُفترض انه قتلها به. والملاحظ أن قصّة اوفيد هذه ظهرت مرّة أخرى في نهاية القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، في مسرحية للكاتب الايطالي كوريجيو الذي أضاف إليها أفكارا مسيحية.
هذه اللوحة تُعتبر من انجح وأكثر أعمال دي كوزيمو شعبية. وهي طويلة جدّا من حيث الحجم. وهناك احتمال أنها استُخدمت كخلفية لأريكة أو خزانة في قصر بفلورنسا أو في غرفة عروس من نساء الطبقة الرفيعة. وما يزال بالإمكان رؤية آثار بصمات أصابع الرسّام في الجزء العلويّ منها.
الدراما في اللوحة تحدث على ارض منخفضة عند مصبّ نهر. في الخلفية، الحياة مستمرّة، وهناك سفن مبحرة ونوارس وبجع وكلاب صيد. التدرّج في استخدام ألوان خفيفة وناعمة في الخلفية كانت طريقة ابتدعها دافنشي. والكلب في اللوحة ليس عنصرا مكمّلا أو مجرّد رفيق صيد بل صوّره الرسّام كشريك للإنسان في الحداد والحزن، وهذه تُعتبر فكرة ثورية وغريبة على فنّ عصر النهضة.
دي كوزيمو كان بارعا في رسم الحيوانات، وقد رسم الكلب هنا بطريقة تشي بنبل هذا الحيوان وإخلاصه وصدق مشاعره. وحسب اوفيد، كان الملك مينوس والد بروكريس هو من أهدى الكلب إلى عريسها.
المصدر الوحيد لأيّ معلومات متوفّرة عن هذا الرسّام هو كتاب "حياة الفنّانين" للمؤرّخ الايطاليّ جورجيو فاساري. وهذا الأخير لم يكن بالتأكيد أنزه المؤرّخين، لكن يمكن أن يكون في بعض ما ذكره شيء من الحقيقة. وهو في كلامه عن دي كوزيمو يرسم صورة لإنسان غريب الأطوار ودائم السخرية من العالم. وقد يكون هذا هو السبب في أن السورياليين انجذبوا إليه وأحبّوا أعماله.
فاساري يصف دي كوزيمو بأنه كان شخصا شاذّ الطباع، بوهيميّا وكارها للمجتمع. وهو يقدّمه كنموذج لنوعية الحياة التي يجب على كلّ فنّان أن يتجنّبها. كان الرسّام مفتونا بالحيوانات التي تظهر في لوحاته كثيرا. كما كان مغرما بالعزلة، وكثيرا ما كان في أوقات فراغه ينسج الأحلام ويبني قصورا في الهواء.
كان دي كوزيمو يعيش كحيوان برّي أكثر منه إنسانا. وفي كلّ أعماله، هناك روح تختلف عن أعمال غيره وبراعة في استكشاف الطبيعة وتوظيف ذلك من اجل متعته الخاصّة. ولطالما تمنّى الرسّام أن يموت في الهواء الطلق وحوله أناس كثيرون يؤازرونه بالكلمات الطيّبة وكاهن يدعو له قبل أن يذهب برفقة الملائكة إلى الجنّة. كان يردّد مثل هذه الأحاديث والأفكار كثيرا بالقرب من نهايات حياته إلى أن وُجد ميّتا ذات يوم أسفل دَرَج منزله.
بعض مؤرّخي الفنّ اليوم يستبعدون أن تكون هذه اللوحة تصويرا لحادثة القتل التي كتب عنها اوفيد، بل يرجّحون أن تكون عن جريمة قتل متعمّدة. ودليلهم في ذلك أن الجرح الناتج عن نفاذ رمح في جسد إنسان لا يتوافق مع الجروح الظاهرة على جسد المرأة في اللوحة.
وما يسوقه هؤلاء من حجج هو دليل آخر على أن المعرفة العلمية يمكن أن توفّر منظورا جديدا في فهم اللوحات الكلاسيكية. مثلا، الجروح والتشوّهات التي لحقت بيدي المرأة تشي بأنها كانت تحاول أن تمنع مهاجما كان يتقدّم نحوها، وقد جرحها بطريقة عنيفة وربّما كان يحمل سكّينا أو سيفا. وبالتأكيد لا يمكن لرمح أن يخلّف مثل هذه الجروح.
وهناك أيضا يد المرأة اليسرى المنثنية للخلف؛ هذه الوضعية تدلّ على أنها تلقّت ضربة خطيرة ومميتة على العنق. ومثل هذه الضربة، حسب الأطبّاء، تتسبّب عادة في تلف الأعصاب التي تجعل معصم اليد ينثني والأصابع تتيبّس. ويخلص هؤلاء إلى أن هذه صورة لامرأة رُضّ عنقها بعد أن حاولت بيأس أن تدافع عن نفسها في وجه قاتل يُشهر آلة حادّة.
وهناك رواية أخرى تقول أن دي كوزيمو كان يحاول فعلا أن يرسم موت بروكريس. وما حدث هو انه ذهب إلى مستودع للجثث وطلب أن يُسمح له برسم جثّة امرأة شابّة قُتلت بسكين. وعندما سُمح له، بدأ برسم ما رآه على القماش. وتصادف أن لا يتوافق ما رسمه مع فهمنا اليوم لما يمكن أن يحدث لامرأة تعرّضت لضربة من رمح.
أشهر لوحات دي كوزيمو موضوعاتها أسطورية وتمتلئ بصور الجان والمخلوقات الهجينة والأقوام البدائيين. ويقال إن الرسّام عندما توفّي أستاذه، ويُدعى روسيللي، استولى عليه الحزن الشديد فأغلق على نفسه باب منزله ولم يسمح لأحد بزيارته وأهمل تنظيف غرفته وتشذيب حديقته. ولهذا السبب رأى البعض في اللوحة ما يمكن أن يكون "بيان نعي أو حِداد" من الرسّام على معلّمه.
الكلاب وطيور البحر والسفن والطريق المتعرّج عناصر قد تتضمّن رمزية تتعلّق بالموت أو بمراحل الحياة. وقد تشير أيضا إلى رحلة الحياة المحفوفة بالمخاطر أو إلى النهاية الحتمية لكلّ شيء.
يذكر فاساري أن دي كوزيمو كاد يُجنّ لوفاة معلّمه. ويبدو انه لم يُشفَ من ذلك الجنون أبدا. كان روسيللي بالنسبة له معلّما محبّا وأبا عطوفا. والكلب قد يكون رمزا لرفقتهما ولإخلاص الرسّام ووفائه الأبديّ لذكرى سيّده.
أمّا الساتير أو إله الغابات فربّما يعكس انجذاب الرسّام للحياة الفطرية والسلوك الغريزيّ. وقد يكون هذا المخلوق هو دي كوزيمو نفسه وهو يبكي الجمال المخبوء في معلّمه الراحل محاولا أن يبعثه إلى الحياة من جديد من خلال فنّه.