مينـشيكـوف فـي بيـريـزوفـو
للفنان الروسي فاسيـلي سـوريكـوف، 1883
للفنان الروسي فاسيـلي سـوريكـوف، 1883
كلّما تمعّنت في تفاصيل هذه اللوحة، كلّما قدّرت جمال خطوطها وثراء ألوانها التي تتناغم مع الدراما الإنسانية التي تصوّرها. كلّ شخص في اللوحة يمكن اعتباره بورتريها قائما بذاته. وهي لا تتناول حدثا معيّنا ولا فعلا دراماتيكيا خارجيّا. اللوحة هي عن العالم الداخلي للصُوَر وعن دراما الانفعالات.
كان الكسندر مينشيكوف رجل دولة مرموقا في روسيا القرن السابع عشر. كان مشهورا جدّاً لدرجة أن الشاعر الكسندر بوشكين ذكره في إحدى قصائده واصفا إيّاه بأنه "نصف قيصر". ولد مينشيكوف لعائلة فقيرة في موسكو عام 1660. وفي شبابه التحق بالجيش وتدرّج في عدّة مناصب. ونظرا لقدراته وكفاءته، اختاره بطرس الأكبر كي يصاحبه في رحلاته إلى هولندا وانجلترا. ثمّ لعب دورا مهمّا في الحرب مع السويد.
وفي ما بعد، وقع مينشيكوف في حبّ فلاحة بولندية تُدعى مارتا ايلينا سكافرونسكا وأصبحت عشيقته. ثمّ قدّمها إلى القيصر بطرس الأكبر فأصبحت خليلته. ولم يلبث القيصر أن تزوّجها بعد أن بدّل اسمها إلى كاثرينا. وقد أصبحت هذه المرأة فيما بعد كاثرينا الأولى التي ستحكم روسيا بعد وفاة زوجها وحتى وفاتها عام 1727م.
كان مينشيكوف هو الذي قام بتأمين خلافة كاثرينا لزوجها، وأثناء حكمها أصبح هو الحاكم الفعلي والمطلق لروسيا. كما كان على وشك تزويج ابنته الكبرى ماريّا من القيصر الجديد بطرس الثاني لولا أن النبلاء الروس قادوا ضدّه مؤامرة اتّهم على إثرها بالخيانة العظمى وبسرقة الخزينة العامّة. وأخيرا صدر الحكم عليه بنفيه إلى بلدة بيريزوفو في سيبيريا وبتجريده من ثرواته الهائلة ومن جميع مناصبه.
مينشيكوف هو موضوع هذه اللوحة التاريخية التي رسمها فاسيلي سوريكوف بعد مرور قرن ونصف القرن على الحادثة. وفيها يظهر الرجل في منفاه السيبيري بصحبة ابنتيه وولده. السقف المنخفض للغرفة يُبرز الشخصيّة الكبيرة لـ مينشيكوف في هذا الكوخ الصغير والبارد. وهو يجلس هنا ساكنا بسترته الرمادية الداكنة وشخصّيته القويّة وفمه المطبق الذي يشي بإرادته الهائلة.
الأفكار الكئيبة مرتسمة على وجهه المتجهّم. انه يشعر بالغضب والكراهية تجاه الذين حكموا عليه بهذا المصير المخزي والبائس. وهو أيضا يحسّ بالعجز واليأس اللذين تعكسهما أصابع يديه المضغوطة بعصبيّة. غير أن من الواضح أن ما حدث له لم يدمّر قواه العقلية، بل رفعت المعاناة روحه المعنوية. فهو يبدو متماسكا وقويّا. قد يكون القدَر أنهكه، لكنّه لم يكسره.
ابنته الكبرى ماريّا، الخطيبة العتيدة للقيصر الجديد والتي ستموت في المنفى بعد ذلك بفترة قصيرة، تلفّ نفسها بسترة سوداء من المخمل وتتعلّق بذراع والدها. وجهها شاحب ومليء بحزن لا نهاية له، وعيناها محملقتان على اتساعهما، وأفكارها مشتّتة. ابنه الكسندر، المستند بذراعه إلى الطاولة، يحرّك الشمعة ويزيل عنها الشمع المتجمّد. وابنته الصغرى الكسندرا، بملامحها الطفولية، تقرأ كتابا وكأنها تلتمس في القراءة بعض العزاء.
التعبيرات على الوجوه وأوضاع الجلوس والحركات والعلاقات بين الشخصيات تكشف لنا عن فكرة الرسّام. وفي حين أن كلّ واحد من الشخصيّات الأربع يبدو غارقا في أفكاره الخاصّة، إلا أنهم قريبون جدّا من بعضهم البعض ومتوحّدون جميعا في إحساسهم بالمصير السيّئ الذي انتهوا إليه.
الأشخاص في اللوحة غارقون في التفكير في الماضي، والمشاعر تذهب إلى ما هو ابعد من الجدران الرثّة لهذا الكوخ الذي يلفّه الحزن والبرد. النافذة الوحيدة مغطّاة بالثلج وتسمح بدخول ضوء باهت يعطي انطباعا بالعزلة والبعد عن بقيّة العالم.
عهد بطرس الأكبر اتسم بكثرة التناقضات والصراعات التي أنتجت شخصيات جديدة وتاريخية. وهذه اللوحة هي تذكير مأساويّ بفترة رجال الدين المستبدّين وبمؤامرات ودسائس القصر وتقّلبات السلطة عندما ترفع شخصا ما إلى القمّة ثم تهوي به فجأة إلى الحضيض.
في صغره، كان مينشيكوف يبيع الحلوى في الطرقات. لكنّ بطرس الأكبر أحبّه لموهبته وطاقته الهائلة وأصبح من اقرب المقرّبين إليه. كان قويّا وصاحب سلطة، والآن محكوم عليه بالموت البطيء في هذا المكان النائي والموحش. كان الرجل يتمتّع بذكاء هائل ومواهب استثنائية، لكن خذلته أنانيّته واعتداده المفرط بنفسه.
قبل أن يُحكم عليه بفترة قصيرة، كان مينشيكوف قد انتهى من بناء قصره على ضفاف نهر النيفا. وكان القصر يُعتبر الأكثر فخامة ورحابة في أوربّا حسب وصف الرحّالة الأجانب الذين زاروا سانت بطرسبورغ في نهاية القرن الثامن عشر. وهو اليوم يؤوي متحف الارميتاج الذي يضمّ مجموعة نفيسة من الأعمال والتحف الفنّية.
هذه اللوحة قد لا تكون عن مينشيكوف نفسه، بل عن الأطفال الذين كان مقدّرا لهم أن يرثوا نتائج طموحات والدهم والآن هم مضطرّون لأن يشاركوه نهايته التعيسة. جمال وثراء وتعقيد الألوان يجعلهم يبدون متوهّجين مثل الحجارة الثمينة. والمضمون المأساويّ للصورة تعزّزه القوّة التعبيرية للألوان البيضاء والسوداء والحمراء.
عندما عرض الرسّام اللوحة لأوّل مرة استقبلها النقّاد والجمهور بحفاوة كبيرة. بعض النقّاد وصفها بأنها عبارة عن دراما شكسبيرية وتجسيد لقدَر الإنسان. والبعض الآخر تحدّث عن نوعية الشخصيات فيها وعن التجربة المأساوية ورعب الصورة وحالة اليأس الذي تصوّره وما تتضمنّه من عناصر مثيرة للشفقة ومحرّكة للمشاعر. تريتيكوف، صاحب المتحف المشهور، أعجب كثيرا باللوحة ودفع للرسّام خمسة آلاف روبل مقابل اقتنائها وضمّها إلى مجموعة المتحف.
توفّي الكسندر مينشيكوف في منفاه في نوفمبر من عام 1729م. وكانت ابنته الكبرى ماريّا التي كانت تعاني وقتها من مرض قاتل قد توفّيت قبل ذلك وقام بدفنها داخل كنيسة بناها بيديه من الخشب. ابنه الكسندر وابنته الصغرى الكسندرا عادا من المنفى عام 1731م. وقد تزوّجت الكسندرا بعد ذلك وتوفّيت وهي تضع مولودها.
الرسّام فاسيلي سوريكوف ولد في سيبيريا عام 1848 لعائلة عريقة من القوقاز. وفي سنّ العشرين ذهب إلى سانت بطرسبورغ لدراسة الرسم في أكاديميّتها. كان مهتمّا دائما بالقراءة عن ماضي روسيا وعن الفترات العصيبة في تاريخ البلاد وأقدار البشر. كما عُرف بحبّه للطبيعة، وكثيرا ما كان يضع في لوحاته خلفيات معبّرة لمناظر طبيعية. وبالإضافة إلى اللوحات التاريخية، رسم سوريكوف العديد من البورتريهات التي تُظهر اهتمامه بالعوالم الداخلية لشخصيّاته. ومن أشهر لوحاته الأخرى بويارينا موروزوفا.
كان الكسندر مينشيكوف رجل دولة مرموقا في روسيا القرن السابع عشر. كان مشهورا جدّاً لدرجة أن الشاعر الكسندر بوشكين ذكره في إحدى قصائده واصفا إيّاه بأنه "نصف قيصر". ولد مينشيكوف لعائلة فقيرة في موسكو عام 1660. وفي شبابه التحق بالجيش وتدرّج في عدّة مناصب. ونظرا لقدراته وكفاءته، اختاره بطرس الأكبر كي يصاحبه في رحلاته إلى هولندا وانجلترا. ثمّ لعب دورا مهمّا في الحرب مع السويد.
وفي ما بعد، وقع مينشيكوف في حبّ فلاحة بولندية تُدعى مارتا ايلينا سكافرونسكا وأصبحت عشيقته. ثمّ قدّمها إلى القيصر بطرس الأكبر فأصبحت خليلته. ولم يلبث القيصر أن تزوّجها بعد أن بدّل اسمها إلى كاثرينا. وقد أصبحت هذه المرأة فيما بعد كاثرينا الأولى التي ستحكم روسيا بعد وفاة زوجها وحتى وفاتها عام 1727م.
كان مينشيكوف هو الذي قام بتأمين خلافة كاثرينا لزوجها، وأثناء حكمها أصبح هو الحاكم الفعلي والمطلق لروسيا. كما كان على وشك تزويج ابنته الكبرى ماريّا من القيصر الجديد بطرس الثاني لولا أن النبلاء الروس قادوا ضدّه مؤامرة اتّهم على إثرها بالخيانة العظمى وبسرقة الخزينة العامّة. وأخيرا صدر الحكم عليه بنفيه إلى بلدة بيريزوفو في سيبيريا وبتجريده من ثرواته الهائلة ومن جميع مناصبه.
مينشيكوف هو موضوع هذه اللوحة التاريخية التي رسمها فاسيلي سوريكوف بعد مرور قرن ونصف القرن على الحادثة. وفيها يظهر الرجل في منفاه السيبيري بصحبة ابنتيه وولده. السقف المنخفض للغرفة يُبرز الشخصيّة الكبيرة لـ مينشيكوف في هذا الكوخ الصغير والبارد. وهو يجلس هنا ساكنا بسترته الرمادية الداكنة وشخصّيته القويّة وفمه المطبق الذي يشي بإرادته الهائلة.
الأفكار الكئيبة مرتسمة على وجهه المتجهّم. انه يشعر بالغضب والكراهية تجاه الذين حكموا عليه بهذا المصير المخزي والبائس. وهو أيضا يحسّ بالعجز واليأس اللذين تعكسهما أصابع يديه المضغوطة بعصبيّة. غير أن من الواضح أن ما حدث له لم يدمّر قواه العقلية، بل رفعت المعاناة روحه المعنوية. فهو يبدو متماسكا وقويّا. قد يكون القدَر أنهكه، لكنّه لم يكسره.
ابنته الكبرى ماريّا، الخطيبة العتيدة للقيصر الجديد والتي ستموت في المنفى بعد ذلك بفترة قصيرة، تلفّ نفسها بسترة سوداء من المخمل وتتعلّق بذراع والدها. وجهها شاحب ومليء بحزن لا نهاية له، وعيناها محملقتان على اتساعهما، وأفكارها مشتّتة. ابنه الكسندر، المستند بذراعه إلى الطاولة، يحرّك الشمعة ويزيل عنها الشمع المتجمّد. وابنته الصغرى الكسندرا، بملامحها الطفولية، تقرأ كتابا وكأنها تلتمس في القراءة بعض العزاء.
التعبيرات على الوجوه وأوضاع الجلوس والحركات والعلاقات بين الشخصيات تكشف لنا عن فكرة الرسّام. وفي حين أن كلّ واحد من الشخصيّات الأربع يبدو غارقا في أفكاره الخاصّة، إلا أنهم قريبون جدّا من بعضهم البعض ومتوحّدون جميعا في إحساسهم بالمصير السيّئ الذي انتهوا إليه.
الأشخاص في اللوحة غارقون في التفكير في الماضي، والمشاعر تذهب إلى ما هو ابعد من الجدران الرثّة لهذا الكوخ الذي يلفّه الحزن والبرد. النافذة الوحيدة مغطّاة بالثلج وتسمح بدخول ضوء باهت يعطي انطباعا بالعزلة والبعد عن بقيّة العالم.
عهد بطرس الأكبر اتسم بكثرة التناقضات والصراعات التي أنتجت شخصيات جديدة وتاريخية. وهذه اللوحة هي تذكير مأساويّ بفترة رجال الدين المستبدّين وبمؤامرات ودسائس القصر وتقّلبات السلطة عندما ترفع شخصا ما إلى القمّة ثم تهوي به فجأة إلى الحضيض.
في صغره، كان مينشيكوف يبيع الحلوى في الطرقات. لكنّ بطرس الأكبر أحبّه لموهبته وطاقته الهائلة وأصبح من اقرب المقرّبين إليه. كان قويّا وصاحب سلطة، والآن محكوم عليه بالموت البطيء في هذا المكان النائي والموحش. كان الرجل يتمتّع بذكاء هائل ومواهب استثنائية، لكن خذلته أنانيّته واعتداده المفرط بنفسه.
قبل أن يُحكم عليه بفترة قصيرة، كان مينشيكوف قد انتهى من بناء قصره على ضفاف نهر النيفا. وكان القصر يُعتبر الأكثر فخامة ورحابة في أوربّا حسب وصف الرحّالة الأجانب الذين زاروا سانت بطرسبورغ في نهاية القرن الثامن عشر. وهو اليوم يؤوي متحف الارميتاج الذي يضمّ مجموعة نفيسة من الأعمال والتحف الفنّية.
هذه اللوحة قد لا تكون عن مينشيكوف نفسه، بل عن الأطفال الذين كان مقدّرا لهم أن يرثوا نتائج طموحات والدهم والآن هم مضطرّون لأن يشاركوه نهايته التعيسة. جمال وثراء وتعقيد الألوان يجعلهم يبدون متوهّجين مثل الحجارة الثمينة. والمضمون المأساويّ للصورة تعزّزه القوّة التعبيرية للألوان البيضاء والسوداء والحمراء.
عندما عرض الرسّام اللوحة لأوّل مرة استقبلها النقّاد والجمهور بحفاوة كبيرة. بعض النقّاد وصفها بأنها عبارة عن دراما شكسبيرية وتجسيد لقدَر الإنسان. والبعض الآخر تحدّث عن نوعية الشخصيات فيها وعن التجربة المأساوية ورعب الصورة وحالة اليأس الذي تصوّره وما تتضمنّه من عناصر مثيرة للشفقة ومحرّكة للمشاعر. تريتيكوف، صاحب المتحف المشهور، أعجب كثيرا باللوحة ودفع للرسّام خمسة آلاف روبل مقابل اقتنائها وضمّها إلى مجموعة المتحف.
توفّي الكسندر مينشيكوف في منفاه في نوفمبر من عام 1729م. وكانت ابنته الكبرى ماريّا التي كانت تعاني وقتها من مرض قاتل قد توفّيت قبل ذلك وقام بدفنها داخل كنيسة بناها بيديه من الخشب. ابنه الكسندر وابنته الصغرى الكسندرا عادا من المنفى عام 1731م. وقد تزوّجت الكسندرا بعد ذلك وتوفّيت وهي تضع مولودها.
الرسّام فاسيلي سوريكوف ولد في سيبيريا عام 1848 لعائلة عريقة من القوقاز. وفي سنّ العشرين ذهب إلى سانت بطرسبورغ لدراسة الرسم في أكاديميّتها. كان مهتمّا دائما بالقراءة عن ماضي روسيا وعن الفترات العصيبة في تاريخ البلاد وأقدار البشر. كما عُرف بحبّه للطبيعة، وكثيرا ما كان يضع في لوحاته خلفيات معبّرة لمناظر طبيعية. وبالإضافة إلى اللوحات التاريخية، رسم سوريكوف العديد من البورتريهات التي تُظهر اهتمامه بالعوالم الداخلية لشخصيّاته. ومن أشهر لوحاته الأخرى بويارينا موروزوفا.