الأصدقاء الثلاثة
للفنّان الصيني دون هونـغ واي، 1989
للفنّان الصيني دون هونـغ واي، 1989
لأوّل وهلة، قد يظنّ الناظر إلى هذه الصورة أنها لوحة مرسومة بالألوان المائية. لكنّها في الواقع صورة فوتوغرافية. وما يجعلها فريدة من نوعها هو الأسلوب التقني المبتكر الذي اتبعه المصوّر في معالجتها.
هذه الصورة وغيرها من صور دون هونغ واي منتشرة على نطاق واسع في الكثير من المواقع على الانترنت لدرجة انه يمكن اعتبارها ظاهرة. ومن الواضح أن المصوّر يحاكي في لقطاته الأسلوب التقليدي الصيني في رسم اللوحات التي تصوّر مناظر طبيعية. كما أنه وظّف فيها بعض الموتيفات التي تظهر عادة في الرسم الكلاسيكي الصيني مثل طيور الماء وأشجار الصنوبر والجسور والأنهار والبحيرات والجبال التي يغطّيها الضباب.
من المعروف أن الرسم الكلاسيكي الصيني يحتفي بالطبيعة وعناصرها إلى درجة التقديس. لذا نرى تلك الرسومات مليئة بصور القوارب والجبال والأنهار والغرانيق والنوارس والنمور والجياد البرّية والنسور وأزهار اللوتس وأشجار الخوخ والصنوبر.
وما يجعل صور واي خاصّة ومتفرّدة هو التكنيك الذي يوظّفه في إخراجها. فهو يستخدم أكثر من صورة سالبة "نيغاتيف" ويعمل على كلّ واحدة على حدة. وفي النهاية يقوم بدمجها معا بطريقة تنتج صورة مونوكروميّة "أي ذات لون واحد"، لكنها جميلة ومعبّرة وتستثير الذكريات والمشاعر.
دون واي سبق له وأن درس على يد المصوّر الصيني الأشهر شِن صن لونغ الذي توفّي في تسعينات القرن الماضي عن عمر ناهز المائة عام. تلك التجربة أفادته كثيرا وفتحت أمامه آفاقا جديدة في معرفة أسرار وخبايا الإبداع في التصوير الضوئي.
في هذه الصورة يلتقط المصوّر مشهدا هادئا من الريف الصيني هو عبارة عن بحيرة يقوم على احد أطرافها جسر خشبي ويسبح في مياهها ثلاثة من طيور الماء تبدو منشغلة في التقاط الأسماك الصغيرة.
منظر التلال التي يغطّيها الضباب في الخلفية، بالإضافة إلى خلوّ هذه الصورة من أيّ حضور للإنسان، يذكّرنا مرّة أخرى باللوحات الصينية القديمة. وبعض تلك اللوحات هي عبارة عن مناظر بانورامية لطبيعة تظهر فيها سهول فسيحة وبحيرات واسعة وغيوم كثيفة وجبال ضبابية تحجب وجود الإنسان أو تختزله إلى مجرّد نقطة شبحية وضائعة وسط الحضور المهيب والطاغي للطبيعة.
في هذه الصورة تمكّن الفنّان من التقاط منظر شاعري عن عالم قائم بذاته، لكن بأقلّ قدر من التفاصيل. والمنظر يوصل إحساسا انطباعيا بالجوّ، كما أنه يوحي بمرور الزمن دون أن يكون عن زمن محدّد بالضرورة.
ولد دونغ هونغ واي في غوانتزو بالصين عام 1929م. كان الابن الأصغر لعائلة فقيرة تضمّ خمسة وعشرين طفلا. وبعد موت والديه، سافر ليعمل في سايغون بـ فيتنام. هناك عمل في احد استديوهات التصوير وتعلّم التقنيات الأساسية للتصوير الفوتوغرافي. ثم درس الفنّ في جامعة فيتنام وأصبح بعد تخرّجه مدرسّا للفنّ فيها.
وأثناء إقامته في سايغون، عمل فترة مع المصوّر الفيتنامي المشهور نك اوت الذي نال جائزة البوليتزر عام 1972 عن لقطته الايقونية التي صوّر فيها أطفالا يهربون من جحيم قنابل النابالم التي استهدفت إحدى القرى الفيتنامية.
في ما بعد، اضطرّ دون واي إلى مغادرة فيتنام مع ظهور بوادر النزاع الذي نشب وقتها بين كلّ من فيتنام والصين. كانت فيتنام قد اتخذت إجراءات مشدّدة للتضييق على الجالية الصينية التي تعيش في البلاد. وقد وجد دون واي نفسه واحدا من ملايين الصينيين الذين أصبحوا يُعرفون بسكّان القوارب ممّن اضطرّوا للهرب من فيتنام في أواخر سبعينات القرن الماضي.
فنّانو الطبيعة الصينيون عُرف عنهم منذ القدم تقديسهم للطبيعة كجزء من التراث والحضارة الصينية. وقد اجتهد الفنانون الصينيون دائما على أن لا تكون أعمالهم مجرّد تسجيل للطبيعة، بل سعوا من خلال تلك الأعمال لأن يتوحّدوا معها ويسبروا أغوارها.
كانت الطاوية مثلا تعتقد أن على الإنسان أن يفهم الطبيعة ويصادقها، لا أن يغزوها ويدنّسها ويبدّد مواردها. وكونفوشيوس كان يرى أن تحقيق التناغم مع العالم مشروط بأن يتعايش الإنسان مع الطبيعة بسلام وانسجام وأن يفهمها وأن يبحث عن المعرفة من خلالها. ومما يُؤثر عنه أيضا قوله أن الإنسان الحكيم يجد متعته في الماء والرجل التقي يجدها في الجبال.
كان الفنّان الصيني القديم يلاحظ سلوك الحيوانات والطيور ويتفاعل مع الأزهار والنباتات ويراقب تغيّر الطبيعة مع تغيّر الفصول. ولم يكن يرسم إلا بعد أن يكون قد تماهى مع كلّ هذه العناصر واستوعبها جيّدا. لذا ليس من المستغرب أن تتضمّن الرسوم الكلاسيكية الصينية بعدا روحيا بالإضافة إلى خصائصها الشعرية والزخرفية.
في هذه الصورة، كما في بقيّة صوره الأخرى، لم ينس دونغ واي أن يضمّنها كتابة بالأحرف الصينية التي تتميّز بجمالياتها الزخرفية. وفي هذا مضاهاة مع احد التقاليد الصينية القديمة في مزج ثلاثة أشكال مختلفة من الفنّ، هي الشعر والخط والرسم، على نفس رقعة الورق. وكان هناك اعتقاد بأن هذا المزج يسمح للفنان أن يعبّر عن نفسه بطريقة أكثر وضوحا وعمقا.
غادر دون واي فيتنام على متن قارب صغير. وانتهى به المطاف في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة التي عاش فيها السنوات العشر الأخيرة من حياته.
وفي أمريكا بدأ اسمه يذيع ويشتهر. وسرعان ما اعتُرف بموهبته ونالت صوره عددا من الجوائز العالمية. كما وجدت طريقها إلى بعض أشهر الغاليريهات والمتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
دون واي استطاع من خلال صوره الرومانسية الداكنة والأحادية الألوان أن يحتفظ لنفسه بمكانة بارزة في مجتمع التصوير الفوتوغرافي العالمي. وقد ظلّ محافظا على روح الفنّ الصيني في أعماله حتى وفاته عام 2004 في سان فرانسيسكو عن عمر ناهز الرابعة والسبعين بعد جراحة فاشلة في القلب.
وبعد وفاته، تمّ إحراق رفاته ولم تُقم له جنازة تذكارية بناءً على طلبه.
هذه الصورة وغيرها من صور دون هونغ واي منتشرة على نطاق واسع في الكثير من المواقع على الانترنت لدرجة انه يمكن اعتبارها ظاهرة. ومن الواضح أن المصوّر يحاكي في لقطاته الأسلوب التقليدي الصيني في رسم اللوحات التي تصوّر مناظر طبيعية. كما أنه وظّف فيها بعض الموتيفات التي تظهر عادة في الرسم الكلاسيكي الصيني مثل طيور الماء وأشجار الصنوبر والجسور والأنهار والبحيرات والجبال التي يغطّيها الضباب.
من المعروف أن الرسم الكلاسيكي الصيني يحتفي بالطبيعة وعناصرها إلى درجة التقديس. لذا نرى تلك الرسومات مليئة بصور القوارب والجبال والأنهار والغرانيق والنوارس والنمور والجياد البرّية والنسور وأزهار اللوتس وأشجار الخوخ والصنوبر.
وما يجعل صور واي خاصّة ومتفرّدة هو التكنيك الذي يوظّفه في إخراجها. فهو يستخدم أكثر من صورة سالبة "نيغاتيف" ويعمل على كلّ واحدة على حدة. وفي النهاية يقوم بدمجها معا بطريقة تنتج صورة مونوكروميّة "أي ذات لون واحد"، لكنها جميلة ومعبّرة وتستثير الذكريات والمشاعر.
دون واي سبق له وأن درس على يد المصوّر الصيني الأشهر شِن صن لونغ الذي توفّي في تسعينات القرن الماضي عن عمر ناهز المائة عام. تلك التجربة أفادته كثيرا وفتحت أمامه آفاقا جديدة في معرفة أسرار وخبايا الإبداع في التصوير الضوئي.
في هذه الصورة يلتقط المصوّر مشهدا هادئا من الريف الصيني هو عبارة عن بحيرة يقوم على احد أطرافها جسر خشبي ويسبح في مياهها ثلاثة من طيور الماء تبدو منشغلة في التقاط الأسماك الصغيرة.
منظر التلال التي يغطّيها الضباب في الخلفية، بالإضافة إلى خلوّ هذه الصورة من أيّ حضور للإنسان، يذكّرنا مرّة أخرى باللوحات الصينية القديمة. وبعض تلك اللوحات هي عبارة عن مناظر بانورامية لطبيعة تظهر فيها سهول فسيحة وبحيرات واسعة وغيوم كثيفة وجبال ضبابية تحجب وجود الإنسان أو تختزله إلى مجرّد نقطة شبحية وضائعة وسط الحضور المهيب والطاغي للطبيعة.
في هذه الصورة تمكّن الفنّان من التقاط منظر شاعري عن عالم قائم بذاته، لكن بأقلّ قدر من التفاصيل. والمنظر يوصل إحساسا انطباعيا بالجوّ، كما أنه يوحي بمرور الزمن دون أن يكون عن زمن محدّد بالضرورة.
ولد دونغ هونغ واي في غوانتزو بالصين عام 1929م. كان الابن الأصغر لعائلة فقيرة تضمّ خمسة وعشرين طفلا. وبعد موت والديه، سافر ليعمل في سايغون بـ فيتنام. هناك عمل في احد استديوهات التصوير وتعلّم التقنيات الأساسية للتصوير الفوتوغرافي. ثم درس الفنّ في جامعة فيتنام وأصبح بعد تخرّجه مدرسّا للفنّ فيها.
وأثناء إقامته في سايغون، عمل فترة مع المصوّر الفيتنامي المشهور نك اوت الذي نال جائزة البوليتزر عام 1972 عن لقطته الايقونية التي صوّر فيها أطفالا يهربون من جحيم قنابل النابالم التي استهدفت إحدى القرى الفيتنامية.
في ما بعد، اضطرّ دون واي إلى مغادرة فيتنام مع ظهور بوادر النزاع الذي نشب وقتها بين كلّ من فيتنام والصين. كانت فيتنام قد اتخذت إجراءات مشدّدة للتضييق على الجالية الصينية التي تعيش في البلاد. وقد وجد دون واي نفسه واحدا من ملايين الصينيين الذين أصبحوا يُعرفون بسكّان القوارب ممّن اضطرّوا للهرب من فيتنام في أواخر سبعينات القرن الماضي.
فنّانو الطبيعة الصينيون عُرف عنهم منذ القدم تقديسهم للطبيعة كجزء من التراث والحضارة الصينية. وقد اجتهد الفنانون الصينيون دائما على أن لا تكون أعمالهم مجرّد تسجيل للطبيعة، بل سعوا من خلال تلك الأعمال لأن يتوحّدوا معها ويسبروا أغوارها.
كانت الطاوية مثلا تعتقد أن على الإنسان أن يفهم الطبيعة ويصادقها، لا أن يغزوها ويدنّسها ويبدّد مواردها. وكونفوشيوس كان يرى أن تحقيق التناغم مع العالم مشروط بأن يتعايش الإنسان مع الطبيعة بسلام وانسجام وأن يفهمها وأن يبحث عن المعرفة من خلالها. ومما يُؤثر عنه أيضا قوله أن الإنسان الحكيم يجد متعته في الماء والرجل التقي يجدها في الجبال.
كان الفنّان الصيني القديم يلاحظ سلوك الحيوانات والطيور ويتفاعل مع الأزهار والنباتات ويراقب تغيّر الطبيعة مع تغيّر الفصول. ولم يكن يرسم إلا بعد أن يكون قد تماهى مع كلّ هذه العناصر واستوعبها جيّدا. لذا ليس من المستغرب أن تتضمّن الرسوم الكلاسيكية الصينية بعدا روحيا بالإضافة إلى خصائصها الشعرية والزخرفية.
في هذه الصورة، كما في بقيّة صوره الأخرى، لم ينس دونغ واي أن يضمّنها كتابة بالأحرف الصينية التي تتميّز بجمالياتها الزخرفية. وفي هذا مضاهاة مع احد التقاليد الصينية القديمة في مزج ثلاثة أشكال مختلفة من الفنّ، هي الشعر والخط والرسم، على نفس رقعة الورق. وكان هناك اعتقاد بأن هذا المزج يسمح للفنان أن يعبّر عن نفسه بطريقة أكثر وضوحا وعمقا.
غادر دون واي فيتنام على متن قارب صغير. وانتهى به المطاف في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة التي عاش فيها السنوات العشر الأخيرة من حياته.
وفي أمريكا بدأ اسمه يذيع ويشتهر. وسرعان ما اعتُرف بموهبته ونالت صوره عددا من الجوائز العالمية. كما وجدت طريقها إلى بعض أشهر الغاليريهات والمتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
دون واي استطاع من خلال صوره الرومانسية الداكنة والأحادية الألوان أن يحتفظ لنفسه بمكانة بارزة في مجتمع التصوير الفوتوغرافي العالمي. وقد ظلّ محافظا على روح الفنّ الصيني في أعماله حتى وفاته عام 2004 في سان فرانسيسكو عن عمر ناهز الرابعة والسبعين بعد جراحة فاشلة في القلب.
وبعد وفاته، تمّ إحراق رفاته ولم تُقم له جنازة تذكارية بناءً على طلبه.