أرض الحليـب والعسـل
للفنان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1567
في القرون الوسطى، كان الناس في أوربّا يعتاشون بشكل رئيسي على الزراعة وما تنتجه الأرض من محاصيل وثمار. وكان العمل في الأرض مجهدا ويتطلّب الكثير من المشقّة والتعب.
من جهتهم، كان رجال الدين يحثّون الناس على الزهد في الدنيا والتطلّع إلى ما ينتظرهم من نعيم مقيم بعد الموت، بينما يتمتّعون هم بالثروة والسلطة المطلقة وتوزيع صكوك الغفران على الفقراء.
في ذلك الوقت، ظهرت أسطورة تحكي عن مكان خيالي يقال له كوكين أو ارض الحليب والعسل. تقول تلك الأسطورة انه من اجل بلوغ ذلك المكان يلزم الإنسان أن يعبر نهرا عصيّا وقذرا. وكلّ من يجتاز ذلك النهر بنجاح، ينتهي به المطاف في ارض تتدفّق في جنباتها أنهار من الزيت والحليب والنبيذ مكافأة له على صبره وعزيمته. وفي تلك الأرض تتوفّر كلّ سبل الراحة والرفاهية ويجد الإنسان طوع يده كلّ ما يحتاجه من صنوف المتع والخيرات.
وفيها أيضا بإمكان الإنسان أن ينسى قسوة الحياة الزراعية التي ألفها الناس في أوربّا آنذاك. وفي ارض كوكين لا حاجة للإنسان لأن يعمل لكسب كفافه أو لقمة عيشه. فالطعام وفير والسماء تمطر سمْناً ولبَناً. والإوز المشويّ يطير مباشرة إلى فم الإنسان. والسمك المطبوخ يقفز خارج الماء ليحطّ عند قدمي طالِبه. والطقس دائما معتدل والنبيذ يفيض دون حساب.
وفي ارض كوكين لا حاجة لأن يكافح الإنسان ويكدّ. بل إن الإنسان ممنوع من العمل أصلا. ولا توجد قيود اجتماعية من أيّ نوع. وجميع الناس يستمتعون بالشباب الأبدي والحياة السرمدية. والحرّيات الجنسية متوفّرة للجميع. بل إن الراهبات لا يتحرّجن عن الكشف عن مؤخّراتهن على الملأ.
وقد راج الحديث عن ارض كوكين في الكثير من الأشعار والقصائد في ذلك الوقت. وفي ما بعد استلهمها الموسيقيّ البريطاني إدوارد إلغار في احد أعماله الموسيقية. وكانت الفكرة تختصر رغبة الإنسان في تحقيق أحلامه وتعكس تبرّمه من حياة التقشّف وانتظار الموت التي كان ينصح بها رجال الاكليروس.
وكان لتلك الأرض مُعادِل في كلّ الثقافات الأوربية. لكنّها جميعا تؤدّي نفس المعنى تقريبا. كانت كوكين نوعا من الجنّة الموعودة أو اليوتوبيا. كما يمكن تشبيهها بقارة اتلانتيس المفقودة أو آلدورادو الأسطورية.
رَسَم ارض الحليب والعسل الخيالية فنّانون كثر من بينهم فرانشيسكو دي غويا. وهناك من رسمها على هيئة مدينة بُنيت منازلها من الكعك والسكّر بينما رُصفت شوارعها بالمعجّنات. والناس فيها لا شغل لهم، بل هم مضطرّون للكسل والسكون لأنهم يجدون جميع ما يطلبونه دون تعب أو عناء.
بيتر بريغل رسم ارض الحليب والعسل في واحدة من اغرب لوحاته وأكثرها سخرية. فهو هنا يصوّر ثلاثة أشخاص: عالم وجندي ومزارع، وهم مستلقون على الأرض ويحدّقون في جذع شجرة ضخمة عليها آنية ملأى بالأطعمة. الجندي "الأوّل إلى اليمين" يُرى وهو يفتح فمه بانتظار دجاجة مشويّة تطير باتجاهه في طبق.
وإلى يمين اللوحة رسم الفنان خنزيرا تمّ إلصاق سكّين في ظهره لتسهيل عملية ذبحه وأكله. وإلى يسار اللوحة نرى رجلا جالسا في حانوت، وفوق سطح الحانوت وعلى جانبيه اصطفّت أنواع الأكل والمؤن المعروضة بالمجّان لمن يريدها.
بيتر بريغل الأبّ يتمتّع في الرسم الأوربّي بمكانة خاصة ورائدة. فهو أوّل فنان أوربّي يرسم الثلج المتساقط في لوحاته. وهو أشهر رسّام تحتشد لوحاته بأعداد ضخمة من البشر. وفي إحدى تلك اللوحات، يمكن إحصاء أكثر من مائتي طفل حشرهم جميعا على رقعة الرسم.
وأعمال بريغل إجمالا تتميّز بواقعيتها الشديدة. وقد وصف في بعضها تعاقب الفصول وصوّر الإنسان فيها كجزء من الطبيعة. كما رسم الفلاحين في أوقات صفوهم ولهوهم. ولوحاته الأخرى تصوّر الشياطين والموت. وهناك من يقدّر عدد لوحاته المعروفة اليوم بأكثر من أربعين لوحة.