وسَط أبيض "اصفر ووردي ولافندر على زهري"
للفنان الأمريكي مـارك روثـكـو، 1950
هذه اللوحة تُعتبر احد أشهر الأعمال الفنّية ونموذجا للفنّ الأمريكي الحديث. وقد سجّلت رقما قياسيا عالميا عندما بيعت في مايو عام 2007 في مزاد في لندن بأكثر من 72 مليون دولار أمريكي. وتبيّن في ما بعد أن المشتري المجهول كان أمير دولة قطر. وقد اشترى الأمير وزوجته أيضا في نفس المزاد لوحة فرانسيس بيكون دراسة للبابا اينوسنت العاشر بمبلغ 53 مليون دولار.
مارك روثكو، واسمه الحقيقي ماركوس روثكوفيتش، هو احد أهمّ الرسّامين في القرن العشرين. كما انه رائد ما يُسمّى بأسلوب المجالات اللونية في التعبير التجريدي.
وقد ولد الرسّام في لاتفيا في منطقة بحر البلطيق عام 1902م. وبعد عشر سنوات من ولادته، هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة.
كان روثكو معجبا بـ دوستويفسكي. كما كان مطّلعا على أفكار نيتشه وعلى الميثولوجيا الإغريقية. وفنّه يتسم بالمضامين الانفعالية التي راكمها من خلال تجريبه للعديد من الأساليب الفنّية، من السوريالية إلى الفنّ الميثي إلى البدائي، إلى أن توصّل إلى أسلوبه الخاصّ والمسمّى بالتعبير التجريدي.
وكان أوّل من استخدم هذا المصطلح، أي التعبير التجريدي، الناقد الأمريكي روبرت كوتس عام 1945م. وقد وصف احد النقّاد أتباع هذه المدرسة أو الأسلوب بأنهم يفضّلون التعبير على الإتقان، والمجهول على المعلوم، والغامض على الواضح، والفرد على المجموع، والداخلي على الخارجي.
هذه اللوحة هي أوّل عمل كبير في أسلوب روثكو المشهور والذي ابتكره في شتاء عام 1948م. وفيه نرى كتلا من الألوان المتكاملة مرتّبة أفقيا على رقعة قماش. وقد اعتمد الرسّام على إضافة طبقة فوق طبقة من الطلاء السميك لإنتاج مجال كثيف من الألوان والأشكال المتشابكة.
وقسّم اللوحة من فوق إلى تحت إلى مستطيلات أفقية قوامها الألوان الأصفر والأبيض والوردي واللافندر والزهري. وحاول خلق توازن متناغم بين اللون والشكل من خلال الأشكال المستطيلة الطافية الممثّلة بألوان ذات حوافّ ناعمة. اللون الأبيض المضيء يهيمن على وسط اللوحة. ويبدو كما لو انه يفيض على خلفية من اللون الأحمر الفاتح.
روثكو كان مفتونا على وجه الخصوص باللون الأحمر. وقد اهتمّ به لقوّته وحركيّته ولقدرته على إثارة الارتباطات الانفعالية والعاطفية.
أعمال الرسّام يغلب عليها التأمّل، كما أنها توحي بأجواء وأمزجة مختلفة. وبعضها يقتضي من المتلقّي وقتا أطول في النظر والتأمّل كي يكون مشاركا فيها بفاعلية. أي أن الأفكار والخبرات الفردية عن اللون والضوء تصبح جزءا من العمل.
تتّسم لوحات روثكو أيضا بمساحاتها الكبيرة وبألوانها وتقسيماتها المتعدّدة. وقد أحبّ لوحاته الكثيرون حول العالم وبيع بعضها بعشرات الملايين. لكن بعض منتقديه يذهبون إلى القول إن مساعيه في التعبير عن الأفكار المتسامية كانت طموحة أكثر ممّا ينبغي. بينما يعتبر آخرون أعماله مملّة أو خالية من المضمون.
ورغم أن روثكو بدأ بتجريب الألوان الحيوية والغنيّة في لوحاته المبكّرة، إلا انه انتقل بعد ذلك إلى ألوان أكثر خفّة وبرودة. وكانت تلك في رأي البعض علامة على اكتئابه المتزايد.
في الأعوام الأخيرة من حياته، أصبح روثكو يتناول الكحول بإفراط ويدخّن بشراهة، كما أسلم نفسه لنوبات طويلة من الاكتئاب.
وفي احد أيّام شهر فبراير من عام 1970 أقدم مارك روثكو على الانتحار وهو في سنّ السادسة والستّين. وتبيّن انه كان قد تناول جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة ثم عمد إلى قطع شريان يده بموس حلاقة.
وقبيل وفاته بوقت قصير، تعاقد معه مطعم في نيويورك ترتاده النخب الرفيعة عادة على أن يرسم ستّ لوحات كي تزيّن القاعات الداخلية للمطعم. وعندما فرغ روثكو من رسمها، تراجع عن الاتفاق. وقيل وقتها انه رفض أن تصبح لوحاته مادّة لتسلية الأغنياء وأفراد الطبقة الحاكمة. وفي ما بعد، تبرّع باللوحات لمتحف تيت البريطاني.
والمفارقة انه في يوم وصولها إلى لندن، وُجد الرسّام ميّتا في منزله بـ نيويورك.
يمكن القول إن لوحات مارك روثكو ليست للتسلية أو الاسترخاء. كما أنها لا تحمل أيّ رسائل. والبعض يراها كالنوافذ التي تسمح للناظر أن يطلّ على عوالم الروح. وهذه الأيّام أصبح اقتناء لوحة من لوحاته يُعتبر حلما بالنسبة للمتاحف وأصحاب المجموعات الفنّية الخاصّة.