بارسيفـال أو فـارس الأزهـار
للفنان الفرنسي جـورج روشيغرو، 1894
تعتمد أوبرا بارسيفال لـ ريتشارد فاغنر على نصّ أسطورة ملحمية مسيحية تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي وتحكي عن مغامرات فارس آرثري بهذا الاسم.
والقصّة تمتلئ بالمعاني والرموز وتجسّد الصراع بين المسيحية والوثنية، وبين الخير والشرّ، والنور والظلام.
عندما ظهرت هذه الأوبرا لأوّل مرّة عام 1857 لاقت إعجابا كبيرا، خاصّة من الرسّامين الانطباعيين الذين كانوا يجدون في أعمال فاغنر عناصر إلهام للوحاتهم.
كان الرسّامون آنذاك متعطّشين للأفكار والمواضيع الجديدة. وقد فتنتهم براعة هذا الموسيقيّ الألماني الذي أعاد الأساطير العظيمة والحكايات القديمة إلى الحياة من جديد.
وعندما فكّر الفنّان جورج روشيغرو في رسم هذه اللوحة، فإنه كان يطمح لأن يقترب من الجماليات النخبوية للرمزيين وأن يستغلّ الشعبية الكبيرة التي كان يتمتّع بها في ذلك العصر الرسّامون الانجليز ما قبل الرافائيليين.
في أحد مشاهد أوبرا فاغنر، عندما يصل البطل بارسيفال إلى قلعة الساحرة كلينغسور يقوم الملك بإصدار تعليماته إلى فرسانه بالتصدّي له ومقاتلته. لكن بارسيفال يتغّلب عليهم جميعا ويلوذون بالفرار.
ثم يتابع الملك بارسيفال وهو يتّجه إلى داخل حديقة قصره باحثا عن الكأس المقدّسة، فيستدعي الساحرة كوندري كي تقوم بإغرائه ومن ثمّ إبعاده عن الحديقة.
الرسّام يصوّر اللحظة التي يجد بارسيفال فيها نفسه داخل حديقة رائعة تحيط به مجموعة من النساء الفاتنات اللاتي يتخفّين في هيئة أزهار. وبعد ذلك ينشب نزاع بين النساء حول أيّهن أحقّ أن تظفر بالفارس.
غير أن بارسيفال لا يكترث لنداءات النساء اللاتي تغطّي أجسادهنّ أزهار النرجس والزنبق والبنفسج.
الطبيعة الخفيفة والمريحة لهذه اللوحة من حيث الشكل والمضمون تجعل منها استثناءً عن بقيّة اللوحات المقتبسة عن أعمال لـ فاغنر الذي تغلب على مسرحيّاته الأفكار المظلمة والمأساوية.
ومن الواضح أن روشيغرو تعمّد أن يبتعد عن نصّ الأوبرا كي يبرز الفكرة الرئيسية التي يقدّمها المشهد، وهي أن بارسيفال كان إنسانا محصّنا ضدّ الإغراء لأنه كان عميق الإيمان بالأفكار المثالية والأخلاقية.
عندما عرض الرسّام اللوحة في صالون باريس نال الكثير من ثناء واستحسان النقّاد. كما بادرت الدولة الفرنسية إلى شراء اللوحة لصالح متحف لوكسمبورغ قبل أن تنتقل في ما بعد إلى متحف اورساي.
وقد كيّف روشيغرو هذا العمل بشكل محكم كي يتناسب مع الذوق السائد في ذلك العصر. ومع ذلك تبدو اللوحة حديثة إلى حدّ كبير.
ورغم انه استخدم لرسمها الأسلوب الواقعي، إلا انه أضاف إليها لمسة انطباعية تبدو واضحة من خلال تعامله مع الطبيعة والخضرة ومزجه الرائع والمتناغم للألوان.
نيتشه الذي كان صديقا لـ فاغنر أثنى على الموسيقى، لكنه انتقد الأوبرا واعتبرها عملا رديئا ومحاولة لانتهاك الأخلاقيات الأساسية.
وقد قيل وقتها أن الأوبرا تروّج لفكرة النقاء العرقي وتتبنّى موقفا معاديا لليهود.
غير أنها وجدت لها أنصارا كثيرين في الوسط الموسيقي. فقد أثنى عليها كلّ من الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسيه والألماني غوستاف ماهلر. العلاقة بين الأوبرا والموسيقى من ناحية والرسم من ناحية أخرى وثيقة وقديمة. الكسندر فراغونار، مثلا، رسم أوبرا "دون جوان" لـ موزارت. وغوستاف دوري رسم أوبرا "شمشون ودليلة" لـ كميل سان سونس. بينما رسم كلّ من ادموند ليتون وجون ووترهاوس أوبرا "تريستان وايزولدا" لـ فاغنر.
الرسّام جورج روشيغرو ولد في باريس ودرس الرسم فيها. وقد تخلّى عنه والده وهو صغير فعاش في كنف زوج أمّه. وفي ما بعد تنقّل بين ايطاليا وهولندا وألمانيا وبلجيكا كدارس وسائح. كان مهتمّا في الأساس برسم الأحداث التاريخية. لكنه أيضا رسم الميثولوجيا والطبيعة ومشاهد من الحياة اليومية.
المعروف أن روشيغرو عاش هو وزوجته آخر سنوات حياتهما في الجزائر. وقد أحبّ الرسّام الثقافة المحلية الجزائرية وأعجب كثيرا بالزخارف المعمارية الشرقية.
تجربته في الجزائر يظهر تأثيرها واضحا في العديد من لوحاته التي صوّر فيها الحريم وبعض مظاهر الحياة اليومية. وقد مكث الفنّان في الجزائر إلى أن أحسّ بتقدّمه في السنّ، فعاد إلى باريس ليموت ويُدفن فيها عام 1938م.
ومن أشهر لوحاته الأخرى السلطانة وموت في بابل والمحظيّة وبورتريه سارة برنارد.