قريـة عرائـس البحـر
للفنان البلجيكي بـول ديلفـو، 1942
يعتبر بول ديلفو احد الرموز المهمّة في حركة الفنّ الحديث في القرن العشرين. وقد اشتهر بلوحاته السوريالية التي تكثر فيها صور لنساء ذوات عيون كبيرة ومتوتّرة يتحرّكن ويتصرّفن كما لو أنهنّ واقعات تحت تأثير منوّم مغناطيسي. وكثيرا ما يظهرن في محطّات القطار أو يتمشّين داخل مبان كلاسيكية الطابع برفقة رجال غامضين يرتدون القبّعات.
القطارات أيضا من الموتيفات التي تظهر في لوحات ديلفو بشكل متكرّر. ويبدو أن الدهشة لم تفارقه منذ رأى أوّل قطار في حياته في باريس وهو ما يزال طفلا.
ومثل غيره من الرسّامين السورياليين، كان ديلفو يستمدّ مواضيع لوحاته من الأحلام والرؤى. وقد رسم هذه اللوحة اعتمادا على حلم روته له زوجته في احد الأيّام. فقد حلمت أنها رأت مجموعة من عرائس البحر على هيئة نساء يرتدين ملابس طويلة بألوان رمادية وخضراء وهنّ يجلسن قبالة بعضهنّ على كراسٍ مذهّبة في زقاق طويل يقوم على جانبيه صفّان من البيوت الرمادية.
النساء في هذه اللوحة يبدين بلا حراك، بينما يضعن أيديهن فوق ركبهنّ ويحدّقن في المجهول.
الزقاق بدوره يمتدّ إلى آخر اللوحة ويفتح على منظر لشاطئ تحيطه جبال بيضاء. في اللوحة أيضا يظهر رجل وحيد يبدو واقفا قرب جدار في الزاوية التي ينعطف عندها الشارع إلى اليمين. وفي الجانب الآخر من الجدار تظهر عن بعد مجموعة من عرائس البحر وهنّ يقفزن في الماء بعد أن تحرّرن من ملابسهنّّ.
المعنى هنا ليس واضحا تماما. ربّما كان كامنا في العقل الباطن للرسّام وزوجته. واللوحة في النهاية هي محاولة لتصوير حلم يصعب فهمه أو تفسيره.
ولد بول ديلفو في بلجيكا ودرس المعمار والديكور في أكاديمية بروكسل للفنون التي عُيّن في ما بعد مديرا لها.
ويُعرف عنه انه كان مغرما بـ جورجيو دي تشيريكو الذي كان معاصرا له. وكان مثله يعشق مناظر الشوارع الصامتة حيث ظلال البشر الذين لا يمكن رؤيتهم.
كما كان معجبا بمواطنه الرسّام رينيه ماغريت وبأسلوب مزجه الواقع بالخيال في لوحاته. ويقال إن ديلفو كان متأثّرا كثيرا بـ ماغريت. في حين يذهب بعض النقّاد إلى أن ديلفو لم يكن في واقع الحال سوى نسخة باهتة عن ماغريت.
بعض لوحات ديلفو تتّسم بغموضها، وفي بعضها الآخر مشاهد من حنين وإحساس بالصمت والأبدية.
وقد زار الرسّام ايطاليا في وقت مبكّر من حياته وأعجب بمبانيها التاريخية وعكَس حبّه للعمارة في العديد من صوره.
لكن لم يكن أحبّ إلى نفسه من رسم النساء العاريات ذوات الصدور الضخمة وهن يتجوّلن على الشواطئ أو في الطرق المزدحمة أو في الأطلال القديمة تحت ضوء القمر، وأحيانا وهنّ يقطفن الأزهار.
في إحدى لوحاته المشهورة بعنوان فينوس النائمة والموجودة في التيت غاليري بـ لندن، يرسم ديلفو امرأة تنام عارية في ساحة قصر مبنيّ على الطراز الإغريقي. وعند رأس المرأة النائمة تقف امرأة عارية وهي تؤشّر بيدها لامرأة أخرى محتشمة تمرّ عند نهاية السرير بمحاذاة هيكل عظمي لإنسان. وعلى الأرضيّة الرخامية نساء عاريات يؤدّين طقوسا غريبة وأخريات يحلّقن في السماء، بينما يضيء المشهد الليلي نور قمر يشعّ من بعيد.
ديلفو قال انه رسم هذه اللوحة في إحدى الليالي التي كانت تتعرّض فيها بروكسل لوابل من قذائف الطائرات أثناء الحرب العالمية الثانية. تلك اللحظات كانت استثنائية في سايكولوجيّتها وفي كمّية التوتّر والدراما التي صاحبتها. ويبدو أن الرسّام أراد من خلال اللوحة الموازنة بين نقيضين: الهدوء الذي يمثّله منظر المرأة النائمة من ناحية والإحساس بالألم والفجيعة الذي تجلبه الحروب من ناحية أخرى. صحيح أن اللوحة مزعجة إلى حدّ ما، لكنها تتضمّن أيضا نوعا من التعبير الشاعري.
كان بول ديلفو شخصا حالما، ولم يكن يحبّ القراءة كثيرا. كما لم يُعرف عنه تديّنه أو انتماؤه إلى أيّ تيّار أو حزب سياسي. وكان يحتفظ في محترفه بمجموعة من الجماجم البشرية التي كان يرسمها في لوحاته. كما كان معروفا بحرصه الشديد على أن يختار بنفسه، وحسب مواصفاته هو، موادّ وعدّة الرسم التي كان يستخدمها.
زوجته التي ألهمته رسم هذه اللوحة ظهرت في العديد من لوحاته بعينيها الواسعتين ووجهها الكلاسيكي. أما نساؤه العاريات فكان يصوغ ملامحهن على ملامح امرأتين أخريين، إحداهما روسية والأخرى سويدية.
ويمكن القول إجمالا إن مناظر ديلفو السوريالية تخلو من أيّ اثر للعنف أو الكوابيس المخيفة. كان عالمه غريبا، لكنّه مسالم نسبيا.
ومن الواضح انه كان يفهم النساء ويتعاطف معهنّ كثيرا. إحدى القصص التي تُروى عنه تقول إنه أحبّ امرأة وهو في سنّ الثلاثين، لكن والديه رفضا ارتباطه بها. وعندما قابلها بالصدفة بعد أكثر من ربع قرن لم يتردّد في الزواج منها على الرغم من انه كان يشارف على الستّين.
توفّي بول ديلفو عام 1994 عن سبعة وتسعين عاما. ومنذ بضع سنوات احتفلت بلجيكا بذكرى مرور مائة عام على مولده.