بدايـة زائفـة
للفنان الأمريكي جاسبـر جونـز، 1959
أهمّية هذه اللوحة تكمن في أنها أغلى لوحة في العالم لرسّام ما يزال على قيد الحياة. ففي العام 2006 اشترى اللوحة كل من آن وكينيث غريفين، وهما صاحبا إحدى المجموعات الفنّية الأمريكية الخاصّة، بمبلغ ثمانين مليون دولار.
وكانت اللوحة قد بيعت قبل خمسين عاما إلى احد جامعي اللوحات الفنّية بمبلغ ثلاثة آلاف دولار فقط. وبعد ذلك بسنوات ابتاعها احد أصحاب الشركات النفطية بمبلغ من ستّة أصفار.
جاسبر جونز يُنظر إليه اليوم كأحد أهمّ الفنّانين الأمريكيين الذين ظهروا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والنقّاد يصنّفون لوحته هذه ضمن الجيل الثاني من مدرسة التعبير التجريدي في الولايات المتحدة. وهي عبارة عن حقل من البقع والممرّات المتشابكة من الأحمر والأصفر والأزرق والبرتقالي والبنّي. ويُلاحظ أن الرسّام حرص على أن تتضمّن اللوحة أسماء الألوان التي استخدمها في رسمها.
وأحد العناصر الغامضة في اللوحة يتعلّق بالاسم الغريب الذي اختاره لها الرسّام. ترى هل كان يقصد انه رسم اللوحة في غير أوانها مثلا؟ أم أن المقصود أنه بدأ رسمها من مكان، في حين انه كان يُفترض أنه بدأها من مكان آخر؟
لكن أيّا كان السبب، فإن ممّا لا شكّ فيه أن هذه اللوحة ذات الألوان المشتعلة أثارت إعجاب الناس منذ ظهورها الأوّل.
وما يميّزها هو هذا التوظيف المبهر لهذا العدد الكبير من الألوان المبهرجة والساطعة فيها.
بعض نقّاد الرسم الحديث اعتبرها عملا ايقونيا. والبعض الآخر رأى فيها مثالا للكمال. ويُعزى الفضل لهذه اللوحة بالذات في أن جاسبر جونز أصبح فنّانا مشهورا وذا شعبية كبيرة. وهناك من يصنّف لوحاته على أنها نوع من الداديّة الجديدة. وكان معروفا بميله إلى استخدام صور من الثقافة الشعبية في معظم أعماله.
ولد جاسبر جونز عام 1930 في جورجيا بالولايات المتحدة. وفي ما بعد درس الفنّ في جامعة ساوث كارولينا ثم عمل في إحدى مكتبات نيويورك. وقد لمع نجمه في بدايات خمسينات القرن الماضي عندما أقام معرضين منفردين لأعماله في كلّ من نيويورك وباريس.
ويقال إن جونز هو الذي وضع الأساس للبوب آرت وما يعرف بـ التقليلية، أي ذلك النوع من الرسم الذي يُعنى بإظهار اقلّ العناصر والتفاصيل. وكان من بين من تعرّف عليهم الرسّام كلّ من مارسيل دُوشان وآندي وارهول وروبرت روشنبيرغ.
كان لـ جاسبر جونز تأثير كبير على الفنّ الأمريكي بشكل عام. ولوحاته تتّسم بالغموض والبساطة والتناقض في نفس الوقت. وكثيرا ما كان يستعير صورا من رسّامين آخرين ليضمّنها لوحاته. والغريب أن هذا لم يؤدّ إلا إلى تأكيد أصالة رؤاه الفنية، بحسب ما يذهب بعض النقّاد. و تكثر في لوحاته صور لأرقام وأعلام وأحرف ومساطر وخرائط. كما دأب على استخدام الورق والقماش والزجاج والخشب وغيرها من الوسائط الأخرى للتعبير عن أفكاره.
ويقال إن جونز تأثّر كثيرا في لوحاته بكتابات الفيلسوف النمساوي لودفيك ويتغنستين التي أعانته في محاولته فهم طبيعة المنطق الذي يربط بين الأشياء. وفي سبعينات القرن الماضي تعرّف إلى الكاتب الايرلندي المشهور سامويل بيكيت ووضع عدّة رسومات لكتاب الأخير بعنوان "إخفاقات". وقد تعامل جونز مع لغة بيكيت المكثّفة برسم سلسلة من الكلمات المتشابكة والغامضة.
وفي أعماله الأخيرة وثّق الرسّام جوانب من سنوات طفولته وصباه من خلال دمج صور لأفراد عائلته في لوحاته، في محاولة لاستعادة ذكريات وتجارب الماضي. وقد نُقل عنه ذات مرّة قوله إن كلّ ما يرسمه له ارتباط ما بسنوات طفولته المبكّرة.
وفي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار لوحات جونز إلى أرقام قياسية، فإن معاني صوره ما تزال موضوعا للكثير من الجدل والنقاش. كما أنها كثيرا ما أثارت غضب وثناء النقّاد في آن واحد. وعندما سُئل في إحدى المناسبات عن معاني لوحاته قال: قد لا يكون هناك معنى. والمعنى قد يكون كامنا في عملية الرسم نفسها. وربّما لا يتجاوز المعنى حقيقة أن هناك لوحة".
جاسبر جونز يحتلّ اليوم المرتبة الثلاثين في قائمة الرسّامين الأغلى مبيعاً في العالم. وقبل حوالي عشر سوات، اشترى متحف المتروبوليتان بـ نيويورك لوحته بعنوان العلَم الأبيض مقابل أكثر من عشرين مليون دولار أمريكي.