طبـيب التشـريـح
للفنان الألماني غابرييـل فـون ماكـس، 1869
الانطباع الأوّلي الذي تثيره هذه اللوحة قد يكون غير مطمئن وغير مريح. وقد يساور الناظر شعور خادع أو مبالغ فيه بأنه يرى منظرا مزعجا أو كريها. ولولا عنوان اللوحة لما أمكننا أن نعرف أننا أمام طبيب يستعدّ لمعاينة وتشريح جسد إنسان ميّت.
في اللوحة يرسم غابرييل فون ماكس نفسه على هيئة طبيب تشريح يجلس أمام جسد امرأة شاحبة من أثر الموت. من الواضح أن المرأة ماتت قبل الأوان، وملامحها تشير إلى أنها ما تزال شابّة وجميلة. الجثّة تظهر كاملة في مقدّمة اللوحة وهي مغطاّة برداء ابيض. وحركة يد الطبيب تشير إلى انه قام للتوّ بإزاحة الرداء عن الجزء العلويّ من صدرها.
ملامح الطبيب تبدو مسترخية ونظراته متأمّلة كما لو انه ينظر إلى شيء غامض ومثير للمشاعر. هذه هي اللحظة التي يمسك بها الرسّام في اللوحة؛ اللحظة التي يصبح فيها الجمال نقيضا للزوال والذبول.
صحيح أن المشهد صادم ومؤثّر. لكنّ طريقة تصويره لا تخلو من رومانسية خفيفة وعلى نحو يذكّر بقول إدغار آلان بو أن لا شيء أكثر شاعرية في العالم من موت امرأة جميلة. فهناك تفاعل خاصّ بين الطبيب والجثّة؛ بين شخصية الذكر وجسد الأنثى.
وصحيح أيضا أن روح المرأة غادرت جسدها. لكنّ جمالها لم يبدأ بالاختفاء بعد بفعل التحلّل الطبيعي الذي يمرّ به الجسد الميّت عادة.
الصورة مظلمة جدّا. النور الوحيد في الغرفة هو ذلك المنعكس على جثمان المرأة المسجّى. وهناك جمجمتان تستقرّان على الطاولة إلى الخلف وحشرة تزحف على طرف حامل الجثّة الخشبي.
المشرّح أو الطبيب لم يبدأ مهمّته بعد ولم يباشر عملية تدمير خطوط وتفاصيل الجسد الذي ما يزال جميلا لكنّه غير كامل لأنه جسد ميّت.
من الحقائق المعروفة اليوم، أن العلم، من خلال التشريح، أصبح قادرا على أن يعبر الخطّ الفاصل بين الحياة والموت. لكن التشريح لا يتعلّق بالحياة نفسها، لأن الجثّة لم تعد فيها حياة.
إذن فيمَ يفكر الطبيب؟ هل يريد أن يعرف عن الموت أكثر؟ هل يفكّر في مدى صعوبة قهر عدوّ قاس وعنيد كالموت؟ هل يفكّر في العلاقة بين الموت والأسرار التي تتكشّف لحظة حدوثه؟
هناك في الصورة عدّة عناصر لا تخلو من دلالة. فالناس عادة لا يرتاحون لرؤية صورة عن الموت، لأنهم يخشونه بطريقة غريزية ولأنه يذكّرهم بمصيرهم في النهاية.
كما أن الميّت هنا امرأة ما تزال شابّة. وهذا يتناقض مع الفكرة السائدة بأن الموت مرتبط بالشيخوخة والهرم. وعقل الإنسان ينفر بطبعه من حقيقة أن الشخص يمكن أن يموت وهو ما يزال شابّا وجميلا. لذا فإن احد المعاني التي تتضمّنها اللوحة هو أن الموت أمر مؤكّد وأوانه غير معروف، كما انه يتحدّى تصوّراتنا وأفكارنا عنه.
ويمكن القول أيضا أن اللوحة تثير الإحساس بعالم السرّية والخوف والغموض الذي يكتنف عمليات وطقوس تشريح الجثث.
ولد غابرييل فون ماكس في براغ عام 1840م. كان والده نحّاتا معروفا. وفي بداياته تعلّم ماكس الرسم في فيينا، وفي ما بعد عمل أستاذا لتاريخ الرسم في أكاديمية ميونيخ للفنون.
تغلب على لوحات الرسّام الطبيعة الرمزية والغامضة بسبب اهتمامه بالفلسفة والتصوّف وعلم النفس والتنويم المغناطيسي ونظريات الطبيعة. وقد عُرف عنه انه كان يحيط نفسه بأعداد كثيرة من القرود. وقد رسمها مرارا في لوحاته وأعطاها سمات البشر. ومن أشهر أعماله الأخرى لوحة بعنوان "القرد ناقداً"، حاول فيها أن يسخر من النقّاد ويستخفّ بأحكامهم وما تتّصف به أحيانا من مزاجية وتسرّع.
بعض الرسّامين الكبار درسوا التشريح وحضروا عمليات تشريح الجثث من أجل تقوية مهارتهم في تمثيل جسم الإنسان في رسوماتهم. ومن أشهر من رسموا التشريح رمبراندت في لوحته درس التشريح وتوماس ايكنز في عيادة الدكتور غروس.
موضوع ذو صلة: طبيعة الأشياء