Wednesday, August 26, 2009

لوحات عالميـة - 207

الكــلــب
للفنان الإسباني فرانشيسـكو دي غــويا، 1823

لا بدّ وأن معظمنا سمع باللوحات السوداء التي رسمها الفنان الاسباني دي غويا على جدران منزله قبيل وفاته.
كان غويا في تلك الفترة يمرّ بأقسى مراحل حياته. وكان قد فقد زوجته وأولاده جميعا ووقع فريسة الاكتئاب والصَمَم والرؤى السوداء.
وقد بدأ رسم اللوحات السوداء، وعددها 14 لوحة، في مطلع العام 1819 وضمّنها صورا لكوابيس وساحرات وأشباح ومناظر مرعبة توّجها بلوحته المشهورة والمزعجة "ساتورن يفترس أبناءه".
هذه اللوحة واسمها "الكلب" هي إحدى أشهر تلك اللوحات، وأحد أكثر الأعمال غموضا في تاريخ الرسم العالمي.
"الكلب" تصوّر طبيعة كئيبة ذات لون اصفر وبنّي يتوسّطها صورة لكلب لا يظهر منه سوى رأسه.
ما قصّة الكلب؟ وما دلالته؟ وهل الصورة استعارة لشيء أو فكرة ما؟
لا أحد يعرف الإجابة على وجه التأكيد. وما تزال اللوحة تثير الكثير من التفسيرات والقراءات المختلفة والمتناقضة.
في الكوميديا الإلهية يتحدّث دانتي عن كلب يقود أرواح الخاطئين والعصاة من بني البشر إلى حيث نار الجحيم والعذاب الأبدي. وثمّة احتمال بأن تكون القصّة أوحت لـ غويا برسم هذا المنظر الغريب والمحيّر.
وربّما أراد من وراء صورة الكلب الوحيد والغامض أن تكون رمزا لحالة الوحدة والمعاناة التي كان يعيشها في تلك المرحلة الصعبة من حياته.
لكن هناك تفسيرات أخرى أكثر إثارة للاهتمام. الكلب في اللوحة يبدو خائفا مذعورا كما لو انه تُرك وحيدا في هذا المكان المقفر الموحش.
إنه يغرق شيئا فشيئا في الرمال المتحرّكة ويحدّق في الفراغ إلى أعلى بيأس وفي عينيه نظرات قلقة ومثيرة للشفقة.
وهناك احتمال أنه عالق وغير قادر على انتزاع نفسه أو انه يحاول أن يحمي نفسه ويتقي خطرا قادما من أعلى قد يكون عاصفة أو طوفانا.
فقط رأسه هو الظاهر في الصورة فيما بقيّة جسمه مغمور. ومن الواضح أن الكلب مجرّد من أي إحساس بالحركة أو الفعل؛ الأمر الذي يوحي بأن فرص الهرب أو النجاة أمامه ضئيلة ومحدودة.
ولا يبدو في المشهد ما يشير إلى بقعة أو مكان ما يمكن أن يوفّر له ملاذا من العالم الخطير الذي يطبق عليه من فوقه ومن تحته.
وقد يكون الكلب جريحا وينتظر الموت. الموت الذي ينتظر الرسّام أيضا.
وربّما كان غويا يرى في الكلب انعكاسا لحالته هو. فالكلب يبدو هنا وكأنه يقاتل ضدّ التيّار. غويا، أيضا، كان دائم السباحة عكس التيّار قبل أن تنهكه متاعب اسبانيا ومشاكلها الكثيرة.
ويُحتمل أن يكون الفنان أراد أن يكون الكلب تجسيدا لحالة اسبانيا في ذلك الوقت والتي كانت تنجرف باتجاه الهاوية بفعل قوى لم يكن ممكنا كبحها أو السيطرة عليها.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تدلّ على قوّة البساطة في التعبير. وهناك من وصفها بأنها أجمل لوحة في تاريخ الفنّ العالمي.
الرسّام المشهور خوان ميرو طلب قبل أن يموت أن يذهب إلى متحف برادو في مدريد ليرى لوحتين فيه للمرّة الأخيرة: الأولى وصيفات الشرف لـ فيلاسكيز والثانية لوحة غويا هذه.
رسم غويا اللوحات السوداء بعد مرضه الخطير عام 1819. وقيل انه رسمها مدفوعا بيأسه من الحرب وبمعاناته النفسية جرّاء إصابته بالصَمَم الكامل.
وقد أطلق عليها المؤرّخون هذا الاسم لطغيان اللون الأسود عليها. غير أنها أيضا تعكس مزاج غويا المظلم وتشاؤمه وحالته العقلية في تلك الفترة.
اللوحات بوجوه أشخاصها المشوّهة وأجسادهم المعذّبة تتضمّن سخرية فاقعة من الحياة وخيبة أمل كبيرة من البشر. كما أنها تمثل قطيعة مع أعمال الفنان المبكّرة التي اتسمت بمواضيعها المرحة وبنظرتها المتفائلة للحياة.
في إحدى اللوحات السوداء واسمها "ليل الساحرات أو التيس العظيم" يرسم غويا الشيطان في هيئة تيس ضخم له قرون طويلة ويرتدي زيّ كاهن وقد وقف يعظ جمعا من أتباعه الذين تظهر على ملامحهم تعابير الصدمة والهلع. هذه اللوحة قد لا تبدو مخيفة كثيرا لكنها مزعجة بأجوائها الكابوسية والمقبضة.
وفي لوحة أخرى بعنوان "الحجّ إلى سانت إيزيدرو" يرسم الفنان مجموعة من الكهّان الذين يمشون بلا هدف أو غاية ويرفعون أصواتهم بالإنشاد وسط طبيعة سوداء قاحلة. هنا أيضا تبدو تعابير الأشخاص في حال من الجزع والهوس والكرب. ويقال إن هذه اللوحة تتضمّن انتقادا مبطّنا لرجال الكنيسة بدليل الطريقة الغريبة التي رُسم بها الرهبان.
وفي لوحة "العجوزان" يرسم غويا شخصين أحدهما بهيئة عجوز له لحية طويلة وإلى جواره شخص ذو ملامح شرّيرة وقد راح يصرخ في أذن العجوز. وهناك نظرية تقول إن العجوز هو غويا نفسه والرجل إلى جانبه هو شيطان إلهامه الذي يتعيّن عليه من الآن أن يصرخ بعد إصابة الفنان بالصمم.
وفي لوحة "المنازلة" نرى رجلين يتعاركان بالهراوات الثقيلة وقد انغرزت أقدامهما في الرمل. الصراع هنا يبدو حقيقيا. انه قتال حتى الموت ولا سبيل لحسمه إلا بموت احد الرجلين. وفي هذا إشارة ضمنية إلى الحرب الأهلية.
اللوحات السوداء ظلّت دائما عرضة للتأويلات والتفسيرات المتناقضة. وقيل إنها محمّلة بمعانٍ ومضامين فلسفية ورمزية. وقد ثبت في ما بعد وعلى عكس التصوّر السائد، أن غويا لم يرسمها عفو الخاطر بل حضّر لها جيّدا وعمل لها اسكتشات عديدة ولم يكن اهتمامه بها اقلّ من اهتمامه بلوحاته الأولى.
بعد أن أتمّ غويا رسم اللوحات السوداء غادر اسبانيا قاصدا مدينة بوردو الفرنسية التي بقي فيها حتى وفاته. وانتقل بيته الذي يضمّ تلك اللوحات من مالك لآخر إلى أن استقرّ في عهدة احد البارونات الذي أمر بنقل اللوحات الجدارية إلى الورق قبل أن يتبرّع بها لمتحف برادو الذي ظلّت فيه إلى اليوم.

موضوع ذو صلة: غويا ودوقة ألبا