Monday, August 29, 2005

لوحـات عالميـة – 31

اورفيـوس
للفنان الفرنسي غوستاف مورو، 1949

كان غوستاف مورو رسّاما غير تقليديّ. وكان يفضّل دائما أن يكون له أسلوبه الخاصّ بدلا من إتباع التقاليد الفنّية التي كانت سائدة في عصره.
كما كان معروفا على وجه الخصوص برسوماته الرمزية والغامضة. وأكثر أعماله تعكس اهتمامه الكبير بالدين والأساطير.
وهناك ثيمات محدّدة تتكرّر كثيرا في رسوماته، وإحداها هي ما عُرف بفكرة المرأة القاتلة كما تجسّدها لوحته عن سالومي مثلا.
وهذه اللوحة هي واحدة من أشهر أعماله التي تُظهر ولعه بتصوير القصص والأساطير القديمة.
اورفيوس في الأسطورة كان معروفا ببراعته في العزف على القيثارة، إلى جانب إتقانه فنون السحر والحكمة. وكان عزفه يفتن الحيوانات وغيرها من الكائنات. وقد أحبّ يوريديسي وتزوّجها، لكنها سرعان ما ماتت بلدغة ثعبان.
وقد اعتبر اورفيوس أن ما حدث لحبيبته لم يكن عدلا، فقرّر الذهاب إلى العالم السفليّ وإعادتها إلى الحياة. وكان سلاحه في تلك المغامرة هو موسيقاه التي سحر بها الأشباح وآلهة الموت.
لكن أثناء عودته هو ويوريديسي إلى عالم الأحياء، التفت وراءه ليتحقّق من أن زوجته تتبع أثره. وكان في ذلك إخلال بالعهد الذي قطعه للإله هيدز، الأمر الذي دفع الأشباح إلى اختطاف يوريديسي وإعادتها ثانية إلى عالم الأموات.
وهنا يقع اورفيوس مرّة أخرى فريسة للحزن والأسى ويقرّر تجنّب مصاحبة النساء طيلة حياته، ممّا يجلب عليه غضب المينادات اللاتي هجمن عليه في أحد الاحتفالات ومزّقن جسده عقابا له على صدّه وتجاهله لهنّ.
العديد من الفنّانين الذين تناولوا هذه القصّة اختاروا أن يرسموا الحدث المروّع، أي مشهد النساء الغاضبات وهنّ يقتلن اورفيوس. غير أن مورو فضّل أن يرسم فكرته الشخصية عن ما الذي حدث بعد القتل المأساويّ. وفي مقاربته للأسطورة، رسم فتاة ترتدي ملابس أنيقة وهي تحمل رأس اورفيوس المقطوع والموضوع فوق قيثارته وتنظر إليه وكأنها منوّمة مغناطيسيّا.
المرأة، بشخصها الطويل وملابسها الشرقية وقدميها الضخمتين نسبيّا، تقف في طبيعة ايطالية بألوان ضبابية وتنظر إلى الرأس بحزن، متأمّلة أغصان نبات الغار التي تطوّقه والقيثارة ذات الزخارف الجميلة.
وجها اورفيوس والمرأة متشابهان بعيونهما المغلقة وملامحهما الحزينة. وتدرّجات الألوان على فستان المرأة وأنماط الأزهار الشائكة التي تزيّنه لافتة وتنمّ عن براعة خاصّة.
بعض النقّاد يقارنون تجسيد مورو لأورفيوس بلوحته عن سالومي ورأس يوحنّا المعمدان. كما يشير البعض الآخر إلى أن الكثير من تفاصيل الطبيعة التي رسمها في هذا العمل تستند إلى لوحة دافنشي "عذراء الصخور".
إلى اليمين وبين التشكيلات الصخرية، نلمح نهرا جليديّا صغيرا يتلوّى عبر الطبيعة البعيدة. والسماء المخيّمة تضفي هالة صفراء على المنظر المتخيّل.
وهناك في اللوحة بعض التفاصيل الأخرى الغريبة، مثل منظر الرعاة الواقفين فوق القوس الصخريّ الضخم في خلفية الصورة وهم يعزفون الموسيقى. وفي أسفل الصورة إلى اليمين تظهر سلحفاتان يوحي شكلهما بأنهما من عصور ما قبل التاريخ، وفي هذا تلميح إلى ما يقال من أن أوّل قيثارة في العالم صُنعت من أصداف وذيل سلحفاة.
هذا المنظر الهادئ والمغمور بالضوء والذي تغلب عليه الفانتازيا والغموض اختار له الرسّام توليفا معقّدا وخلفية خيالية تذكّر بأسلوب دافنشي أو رافائيل.
وعندما عرضه في صالون باريس لأوّل مرّة حرص على أن يرفق معه شرحا يقول فيه: فتاة تحمل رأس اورفيوس وقيثارته بعد أن حملتهما مياه نهر هيبروس إلى شواطئ جزيرة ثريس".
صاحب القصّة الأصلية، أي اوفيد، يذكر في "التحوّلات" أن المينادات غضبن من اورفيوس ومزّقن جسده وألقينه في النهر. ثم جرفت المياه الرأس والقيثارة إلى جزيرة ليزبوس. لكنّه لا يذكر أن فتاة من جزيرة ثريس عثرت على الرأس. وواضح أن هذه الجزئية أتى بها الرسّام من خياله.
كان مورو يشبّه لوحاته بالقصائد السيمفونية من حيث انه يشحنها بالتفاصيل كصدى للفكرة الرئيسية لكي يضفي عليها أكبر قدر من الرمزية.
وقد كتب عنه احد النقّاد في زمانه قائلا انه رسّام غير عاديّ، وهو اقرب ما يكون إلى متصوّف حبيس في بيته الذي لا يدخله شيء من صخب الحياة اليومية. وفي نشوته تلك يرى أحلاما خيالية".
لم يكن من عادة مورو أن يكشف عن أيّ من لوحاته قبل أن تكتمل. وكان بطبيعته شخصا متكتّما، وقد قاوم إغراء عرض أعماله على الملأ أثناء حياته. ورسم أكثر من أربعمائة لوحة، ولم يكن ينوي أبدا أن تباع أو يراها احد. وعندما استشعر دنوّ الموت، قام بإتلاف بعض أوراقه بالإضافة إلى عدد من دراساته وتصاميمه الأوّلية، لأنه كان يؤمن بأن الناس لا يجب أن يروا سوى اللوحات الكاملة.
ولد غوستاف مورو عام 1826. وعندما أكمل الثامنة من عمره، كان قد بدأ يرسم كل ما تقع عليه عيناه. وقد شجّعه والده بعد أن أيقن أن ابنه سيغدو رسّاما حقيقيّا، وساعده على أن يقرأ في الأدب والفلسفة والتاريخ والشعر لكي تنمو مخيّلته وحسّه الجماليّ. ويقال انه تأثّر بديلاكروا الذي كان معاصرا له.
وفي شبابه ذهب الرسّام إلى ايطاليا، ومكث فيها عامين درس خلالهما أعمال كبار رسّامي عصر النهضة. وقد أصبح عاشقا لميكيل انجيلو بعد أن رأى رسوماته في سقف كنيسة سيستينا.
كما قضى بعض الوقت في فيللا ميدتشي التي قابل فيها إدغار ديغا الذي كان بدوره يبحث عن معلّم ووجده في شخص مورو. وقد جمع الاثنين همّ مشترك يتمثّل في كيفية إعادة رسم المواضيع التاريخية بروح جديدة.
ظلّ مورو عازبا طوال حياته بعد أن كرّس كلّ وقته واهتمامه لرعاية أمّه المريضة وحتى وفاتها. لكنه قابل في ما بعد امرأة تُدعى الكسندرين دورو، لعبت في ما بعد دور الملهمة بالنسبة له. وقد ظلا معا لأكثر من عشرين عاما، لكنّهما لم يتزوّجا أبدا لأسباب غير معروفة. وعندما توفّيت المرأة بنى لها صرحا في المقبرة التي كان يعرف مسبقا انه سيُدفن فيها.
قصّة هبوط اورفيوس إلى العالم السفليّ كانت رائجة كثيرا في خمسينات وستّينات القرن قبل الماضي، وكانت فكرة مفضّلة عند الرمزيين بشكل خاصّ. وقد تحوّلت إلى فكرة ترمز للعاشق الذي يحاول استعادة حبيبته وتخليصها من براثن الهلاك، لكنه يفقدها ويفقد نفسه في النهاية نتيجة تسرّعه وحرصه المفرط.
وعبر العصور المتعاقبة، كانت الأسطورة موضوعا للكثير من القصص والمسرحيات وقصائد الشعر والأعمال التشكيلية والمعزوفات الموسيقية. ومن بين من رسموها كلّ من لويس فرانسيز واميل ليفي وجان ديلفيل والكسندر سون. ومن أشهر من كتب عن القصّة من الأدباء كلّ من بول فاليري وستيفان مالارميه. كما استلهمها بعض مشاهير الموسيقيين أمثال سترافينسكي وأوفنباخ وفاغنر وغيرهم.
وبحلول نهاية القرن قبل الماضي، كان قد أصبح هناك ذخيرة من الأعمال التشكيلية التي تمتلئ بالرؤوس المقطوعة والنساء الشيطانات والصمت المخدّر والأساطير المستبطنة والتي يمكن أن يعزى أثرها إلى لوحة مورو هذه.